في صباح اليوم الثالث لوصول أنيس, بعد أن أحضر الرفيق كليب الدين مجموعة جديدة من الأطفال المنتجة وسلمها للأيقونات, أبلغه قسم الخدمات الغذائية عن عجز في الكائنات البشرية وحاجتهم الضرورية لإحضار أسرى وسبايا جدد, فاستجاب لطلبهم وأذن لهم لعشاء اليوم بتقديم الجواسيس المحتجزون بالغواصات في أعماق المحيط, والأطفال الذين ثبت عدم صلحيتهم لأمراض التوحد, فلم يعد لوجودهم جدوى.

 وفي المساء, كان الرفيق قد أعد خطة هجومية بناء على ما ورده من عيونه في المدن والقرى المحيطة, فجهز يخت بثلاث حظائر ومحمل بخمسة عشر سيارة رباعية الدفع لتنفيذ الغارة, بينما على الجزيرة هبط الشيخ للأيقونة وأنار القمر, فصعد لمنصة النزف والذبح ستة من أطفال التوحد وثلاثة من الجواسيس المحتجزة, وبمجرد ظهور ثانيهم تفاعلت الخصية الإلكترونية المزروعة بداخل كيس الصفن الخاص بأنيس, وهي أحدث وأقوى أجهزة تفاعل الإشارات المعقدة لقدرتها على التعرف على بصمة الحمض النووي بالاستشعار عن بعد, فأرسلت بدورها إشعارات مكثفة تشكل صور ثلاثية الأبعاد لغرفة العمليات بالمقر الآمن بالداخلة, والتي أرسلتها على الفور للقاهرة لإعطاء الإذن بالتسلل والاقتحام لإنقاذ الثلاثي بإنزال الضفادع البشرية الخاصة, ولكنها تفاجأت بوقف العملية رسميًا بناء على أوامر سيادة الفيخمان لما أثارته من مشاكل دبلوماسية وسياسية وتضارب لمصالح قوى عظمى, وأمرت بعودة طاقم الصقور فورًا للقاهرة, فما كان من الصاقر وعلا إلا تقديم استقالتهم على الفور لإكمال الخطة بشكل شخصي, فوقف العملية أو تعطيلها أمر متنبأ به منذ معرفتهم ارتباط العملية بأكبر الشخصيات نفوذًا في العالم, فقطعت القبة الاتصالات مع الداخلة, وأرخت استقالتهم بتاريخ عام مضى وقدمت للفيخمان ليبرر موقفه وموقف أجهزته من هولاء المتمردين, أما علا والصاقر فأرسلوا لرواية الإشارة المتفق عليها حتى تقوم من خلال وجودها في قسم الخدمات الفنية تحت الماء بتدمير خط الإنترنت البحري الذي تقوم عليه تكنولوجيا الجزيرة, وهذا ما قامت به بجدارة, فبدأ الصاقر وعلا في التسليح والغوص للهجوم في محاولة لإنقاذ أنسيموس وأنيس ورواية, وفي تلك الأثناء كان الرفيق كليب الدين ورجاله على البوابة الغربية لشنقيط طبقًا للمعلومات التي كانت وردته عن وجود العديد من النساء بدون أدنى حماية أو حراسة مما يسهل عليه الهجوم واختطافهن, سار بمرتزقته حتى وصلوا للساحة المنيرة بالشموع حيث تجلس روح القلوب وبجوارها نيلوس يتسامرن ومن حولهما المتجولات كل مستغرقة في شأنها, فأسروهن بعد التحرش بهن وضربهن ولم يعيروا لبكائهن وتوسلاتهن بالًا, وإختص الرفيق نفسه برُوح القلوب بعد أن رأى جميع العيون تصوب نحوها في استسلام منهن فضربها بيديه الغليظتين وهي تتصنع الرضا والابتسام في وجهه لتطمئن متجولاتها, وبين اللكمة والأخرى تعلق بصره بسلسة معلقة حول رقبتها تنتهي بقلب جلدي ومخفية تحت عبائتها, فانتزعها منها بلا أي رحمة, وكان قد سبق وأوصت متجولاتها إذا جاء أجلها فلتدفن معها.

أمر الرفيق بشحنهن في السيارات التي أخذت طريقها حتى أتت الشاطئ فصعدت على التخت بما حوت, وأثناء إبحارهم للجزيرة انتابه فضول لقراءة ما في الورقة التي وجدها في القلب الجلدي, ففضها وقرأ ما سطر باليد؛

“محمد بن عبدالله, رسول الله, ما الذي صنعته بي؟, كيف لك أن أسرتني هكذا؟, لماذا أحببتك؟, لم أراك, لم أسمعك, لم أخاطبك, لم أظن يومًا سينبض قلبي لبشر في غمار هذا الكون غير المسيح, ولكنني أحببتك حبًا جمًا, بل أنت من أحببني في المسيح أكثر, والأهم, أنك أحببتني في الله, فلم أعرف الرب حقه معرفته إلا منك وبك, يا رسول الله, لماذا عندما أسمع قولك يرق قلبي وتدمع عيني؟, أصبحت مرشدي في قيامي وقعودي, أضحيت أفرق بين الأحاديث الصحيحة عنك والمكذوبة عليك ولست بفقيهة ولا محدثة, ولا أحفظ الصحيحان ولا غيرهما, كلامك الحقيقي يهزني ويلمس أبعد نقط بداخلي ثم يستقر بقلبي, قولك يأسر عقلي فأسمع صوتًا ينبعث من داخلي يخبرني في رفق هذا كلام حبيبك خذيه وطبقيه فهو السبيل لملقاته بعد حين, أطبق سنتك, أفعالك, أقوالك, طمعًا في رؤيتك, في مصاحبتك, في مجالستك, وإذا كان قول موضوع, فقلبي ينفر منه ويصيح لي أبعدي عن هذا فحبيبك منه برئ, فاجتنبه وأبعده عني حتى أتقرب منك وتتقرب مني, بداخلي حاكم عادل يخبرني دائما بأن هذا يرضيك وهذا يغضبك, وهذا تحبه وهذا تكرهه, فتلقائيًا أتبع صحيحك وأعدل عن غيره.

تأتيني دائما في رفق ولين لتنصحني, أتخيلك وأنت أمامي ترشدني بمعروف وبشاشة, فبينما أنت هكذا هؤلاء الدعاة المدعين يدعوننا بالفظاظة وينعتونا بالفساق, تالله من أحبك بصدق لا فظ قلبه ولا تعنف, فأنت رسول الرحمن الرحيم.

 يا حبيبي يا رسول الله, أتسمعني؟, أتراني؟, إن لم تكن تسمعني ولا تراني فيالله ذو الجلالة والإكرام أسمعه إياي, أوصله كلماتي وشعوري وحالتي فأنت الأعلم بها وأنت المطلع على صدقيتي, نحن نحبك يا الله, ونحب رسولك, حجبت رؤيتك عنا فرضينا, فلماذا حجبت عنا رؤية حبينا رسولك الكريم, ألا تشعر بحالنا ونحن في حاجة إليه, نشتاق إليه, أبلغه يا الله بأن هناك أقوام لم تراه ولم تسمعه وتؤمن به وتحبه حبًا لا يعادله إلا حبك أنت يالله, أخبره أننا في حاجة ماسة له, نعلم أيها المختار المصطفى أنك تحزن كثيرًا على حالنا, أصحبنا من بعدك سنة وشيعة وخوارج, صرنا أحزاب وقبائل وفرق وشيع, عدنا عرب وعجم, فمنا من يكفر بالله, ومنا من يكفر غيره في الله, من بعدك نصبنا أنفسنا نواب عن السماء, وأضحينا وكلاء عنك, فاغفر لنا يا حبيبنا يا رسول الله.

مع قرأته لتلك الكلمات أغروقت عيناه بالدمع, وتذكر محبوبة الطفولة حينما كانت تقول لكل من هو ذاهب للحج أو العمرة إذا رأيت قبر الرسول فأرسل له سلامتي أبلغه تحياتي, فأخذته الذكريات لماضيه حيث بلده وحياته ودينه ووالديه قبل أن يشتريه الشيخ منذ سبع سنوات ويلقبه بكليب الدين تيمنًا بوائل من ربيعة, ويدربه ليكن الرفيق اليوم, فتحير فكره واضطرب عقله وقلبه وسأل نفسه للمرة الأولى, كيف سمح لنفسه أن يكون هكذا؟.

مع إرساء اليخت على شاطئ الجزيرة نزل الرفيق وسار إلى أن وصل الأيقونة الكبرى, وتتبعه السبايا ليختار الشيخ الجميلات منهن ليكن مع ملائكته ويرسل البقية للخدمات الغذائية, وفي مقدمتهن روح القلوب تليها أم إسحاق, فوجد على منصة النزف والذبح أنسيموس مكبلًا وبجواره رواية وأنيس مقيدين بعد كشفهما, وملحق بهما سماء والدكتور علاء بعد وصولهم من مصر, ويقابلهم على الناحية الأخرى علا والصاقر بعد وقوعهم في شباكهم, حيث وضعت في محيط الجزيرة أسماك صناعية قادرة على التعامل مع أي أجسام بشرية بالتعرف عليها بالقياس الحراري وصيدها وإرسالها للجزيرة, فهروت أم اسحاق والروح في اتجاههم, أما الرفيق فأخذت عيناه تجول بين المحبوبة تارة وبين الأب والأم تارة أخرى, قلبه يرتجف وتختلط مشاعره, حبًا ورعبًا, لقد عادت إليه الأسرة الحقيقية التي ظل سبع سنوات غائبًا عنها, ولكن عقله يتحير ويتسائل ما الذي أتى بهم وأوقعهم هاهنا, إلا أنه اتخذ قراره سريعًا وذهب باتجاه الشيخ الذي يلعب في ثدي ملائكته, وأمسكه بيد والأخرى أمسك بها الريموت صائحًا به:-

  • ألست القادر ولا قادر غيرك بهذا الريموت, فلتجعله إذن ينقذك مما سأفعله بك.

وإذ به يضغط على زر لفتح البوابة السطحية للنساء القابعات بأقسام الخدمات تحت الماء ليقذفه بداخلها ليرى الشياطين على أكمل وجهها كما كان يلقبهم, ولقد استقبلوه بالفعل والسكاكين بأيديهن أحر من الجمر, ثم خطى وائل سريعًا ليصل حضن علا وعلاء بعد كل هذا الغياب والحرمان, وإن تغيرت ملامحه كلية إلا أن بملامسة الأحضان علت أصوات البكاء يخالطها الفرح والاستبشار حيث اجتمع الشمل أخيرًا وإن كان ينقصه شامل الباكي الحزين على زوجته, وأنس وقصة وبقية الرفاق.  

وفي غمار هذه الأحضان الدافئة ومشاعر الفرح والسرور تسأل رواية كعادتها الفضولية:-

  • وماذا سنفعل الآن؟

تنظر روح القلوب فيما حولها ثم تقول:-

  • سنقوم بإعادة إحياء هذه الجزيرة ولكن على الحق من أجل هؤلاء الأطفال البريئة.

فيتدخل أنسيموس متحدثًا بعد شهور من الصمت في الحبس الانفرادي:-  

  • ولكن أتزوج أنا ورواية أولًا.

فيتابع وائل موجهًا عيناه اللامعة فرحًا للمحبوبة:-  

  • وأنا وسماء أيضًا.

فتصرخ أم إسحاق:-

  • لن يتم هذا الزواج أبدًا.

ومع هذه الكلمات يصاب الصاقر برجفة ويشحب لون وجهه وترتعش أوصاله ويسأل متلعثمًا خائفًا:-

  • يا نهار أسود ومنيل, هل وائل وسماء أخوات أيضًا؟, فمنذ أن عرفتك وأنت جعلتي العالم كله أمامي أخوة, فأخشى أن أتزوج بعد الآن فأجدها أختي من الأب أو الأم.

فيرتعب الجميع خوفًا وفزعًا من كلام الصاقر وكأن على رؤوسهم الطير في انتظار إجابة أم اسحاق التي تضحك ساخرة ثم تقول:-

  • لا, أقصد نستدعي قصة وأنس الأول لكي يحضروا حفل الزواج.

فيضحك الجميع, بينما رواية وأنسيمسوس يقتربا من الصاقر للاستفسار عن قصة الأخوة التي ذكرها فقال لهم وهو يبتسم ساخرًا:-   

  • عدم السؤال من الأفضل لي ولكم وللآخرين وللجميع.