في مبتدأ أحد الأنهر الشتوية الكئيبة، لم تكمل الثامنة دورتها حتى توقفت ثلاث سيارات متباينة النوع واللون أمام أحد مداخل ذلك المبنى، رحب الأرجاء واسع الحيز مجهول الإنعات، فبرز من السيارة الأولى رجل عريض المنكبين طويل القامة ذو شارب أسود خفيف، ونزل من الثانية والثالثة رجلان لا ينقصان عنه طولًا ولكنهم أنحف قليلًا. سار الرجل الأول ثم تبعه الثاني والثالث، مشى ثلاثتهم في خطوات صلبة واثقة، ما أن عبروا البوابة الإلكترونية مشددة الأمان ببصمة الوجه حتى انتفض الحارس لفتح باب المصعد، فركبوا به وما هي إلا ثوانٍ حتى انفتح معلنًا الوصول للدور السابع عشر الذي تميزه لافتة منيرة في مدخله كتب عليها:

(اللجنة القانونية المعنية بحقوق الإنسان والاستشارات القانونية العاجلة)

وأسفلها نُحتت لافتة مستديرة نُقش عليها:

(تحت رعاية ورئاسة الفيخمان الزعيم القائد، أُنشئت “اللجنة القانونية المعنية بحقوق الإنسان والاستشارات القانونية العاجلة” طبقًا لما يتوافق مع مبادئ الميثاق العالمي لحقوق للإنسان، فلإيماننا المتين بأهمية وحتمية تغيير الأسلوب الأمني المُتبع جاءت اللجنة لتكون المنبع القانوني والإنساني من خلال اختصاصها كجهة معنية بالتعامل مع جميع القضايا والمتهمين، وحتى نطمئن أن ينال المواطن كل حقوقه).

هكذا كان نصها وختمت بالجملة الشهيرة:

(في خدمة الشعب).  

خرج الثلاثة من المصعد قاصدين مكتبًا يقع آخر الممر عُلقت على يمنيه لافتة مصغرة حاملة عبارة:

(المدير).     

في حركة نشيطة قفز محسن معاون المكتب ففتح الباب، فانكشف ما في الداخل حيث وجد، على غير العادة، ثلاثة مكاتب خشبية متماثلة للغاية، لا يميزها سوى أسماء مختلفة رسمت على ألواح زجاج متناسقة القطع، المكتب الأوسط المقابل للباب تجد الدكتور صلاح العقيلي، وأما المكتبان الآخران فوضعا بعناية حيث يقابلان بعضهما البعض، أحدهما تعلوه الدكتور علاء الدين، والآخر الدكتور جروان النجار، تقدم كل منهم إلى مكتبه، ولم تكمل الدقيقة دورتها حتى توجه محسن إلى المكتب الأوسط وقال في أدب بليغ:

  • المُسيف رئيس الجهاز ينتظرك يا صلاح بيه في الحال.

رأى محسن علامات النفور وسمات الضيق وآثار الضجر شرعت تعلو سحنته لهذه العجلة، فأراد أن يبرهن هذا الاستعجال بطريقة أكثر جدية فتابع:

  • من الواضح أنه أمر هام وعاجل؛ لأنه حضر للجهاز منذ الخامسة فجرًا.

طرأ من الخلف صوت قهقهة ساخرة يتضح من سماعها أنها ممزوجة بين شخصين، أتبعها جروان بقوله:

  • وأي جديد في هذا؟ ما أتى يوم إلا وينصب علينا أمر هام وعاجل.

فاستفهم صلاح:

  • أين هو الآن؟ أفي مكتبه؟

فجاءته كلمات محسن بما لم يكن يرغب في سمعه:

  • لا يا أفندم، إنه ينتظرك في التجويف.

وما أن فرغ محسن من قوله حتى علت أصوات علاء وجروان ضحكًا لأنهما أيقنا بالضيق المحتوم والغيظ المشهود الذي سيجتاح صديقهم لغليانه من هذا النفق وهيجانه لممراته، أما صلاح فصاح بنبرة حادة متأففًا:

  • أفندك الكبر! أغرب عن وجهي يا محسن الآن.

ونظر إلى صديقيه وخاطبهم في امتعاض:

  • كل منكما في عمله.

فجاءت نبرتهم المتهكمة في آن واحد:

  • كما تأمر يا مدير.

فتعجب منهم وقد انفرجت أساريره قليلًا:

  • سبحانك يا ربي! فعندما تأتي الاجتماعات وما يتبعها من مصائب أصبح أنا المدير!

تناول من مكتبه بطاقة بلاستكية حمراء بها بعض الكتابات والرموز غير الواضحة، ثم فتح الباب الخلفي للمكتب وأخذ يخطو سريعًا إلى أن وصل للمهبط الإلكتروني، فضغط بكفه اليمنى على شاشته المعقدة، ثم زرع البطاقة في فتحة جانبية، فانفتح، فدخله ثم ضغط زر Under، وأتبعه برقم 10 فانغلق الباب، فأخذ يتعجب في نفسه مستبشعًا:

  • عشرة أدوار تحت الأرض! كيف؟ ولماذا؟ أهذا مبنى حكومي أم مغارة؟

لا شعوريًا أخذته الذكريات البشعة لأول هبوط اضطر له لهذا الوكر الحقير، فاسترجع ما ينحفر برأسه ويأبى الفراق، مما سبب له الاضطرابات النفسية اتجاه هذا المستنقع، وفي أقل من دقيقة فتح المهبط، فهم بالخروج، وإذ فجأة بكائن أسود ضخم تكسو ملامحه الغضب، ذي شارب عريض يغطي جزءًا كبيرًا من أسفل وجهه يندفع ناحيته، فيدب الارتعاش في أوصاله، فيهتف الرجل به:

  • ما بك يا صلاح بيه؟

فبذل صلاح غاية جهده ليتمالك نفسه حتى يظهر بثقة تليق بمركزه ويجيب بنبرة تتناسب مع وظيفته، فقال بصوت حاسم:

  • لا شيء يا حمادة، ولكن عندما تسير أصدر صوتًا، أو على الأقل بعض الحمحمة، فقليل من حمحمتك كافية أن توقظ النائم.

فرد حمادة متأسفًا:

  • سامحني يا دكتور.

ثم تابع بلهجته القوية المعتادة:

  • المُسيف في انتظار معاليك.

تنهد من الأعماق. وتنهد ثانيًا. ثم قال وقد بدا عليه الارتياح:

  • إليه ذاهبون يا حمادة، ولكن أرغب في طرح سؤال يلح عليَّ دائمًا، ودومًا ما يلحفني حينما أراك، لماذا اسمك حمادة؟ فلا هيئتك تدل على حمادة، ولا هذه الأدغال التي نحن فيها الحين تدل على حمادات.

فأجابه بامتعاض شديد وكأن استشاطة أصابته:

  • إنه قدر ربنا يا باشا.

فتمتم صلاح همسًا:

  • قدر ربنا! وهل أمثالكم يعرفون ربنا؟
  • أتحدثني بشيء يا بيه؟

فأجاب صلاح محاولًا رسم بسمة مزيفة على شفتيه متهكمًا:

  • لا شيء، فهيا بنا يا حموكشة.

أخذ صلاح طريقه خلف حمادة وهو يقرأ العبارات المبعثرة ويطالع الرسومات المتناثرة المدونة على الجدران، يتحير من هؤلاء البشر، فمن جانبه كيف هؤلاء المعتقلون في مثل هذا المحبس البغيض الذي يشبه القبر في ظلمته ووحشته، ولهم من الجرأة ما يجعلهم يسطرون مثل هذا الكلام، وما يمكنهم من التفنن في إبداع هذه الرسوم! ألم يخشوا تلك العقارب اللدغة المنتشرة حولهم؟! ألم يتذكروا تلك السياط المتعاقبة على أجسادهم، والتي كان يراها بعينه! ما كان يستقر في معتقده أن لو أحدهم تذكر ألمه من تلك اللكمات والكدمات ما تشجع لمرة واحدة أن يكتب مثل هذه الكلمات، ولكنه يزال حائرًا، فما هذه السبورة الجامعة التي توحد عليها المصريون! فلم يرَ المصريين مجتمعين أو متفقين من قبل، لا في كلام مرسل ولا في كتابة مسطرة، الآن يراهم يسجلون عبارات مختلفة كل الاختلاف فكريًا وثقافيًا وسياسيًا، يا الله! جميع الشعارات الفكرية والرايات السياسية متمثلة على هذا الجدار، لهذا الحد لم يُرحم أحد، ولم تُرحم فئة من هذه القبضة التي لا تعرف للعفو طريقًا ولا لرقة القلب دليلًا ولا لإنصاف الحق وإقامة العدل أهلًا، كلما تقدم للأمام خلف هذا الكائن المتمثل في حمادة يبصر عبارة أو شعار يسترعى انتباهه ويستميل نظره ويشد تركيزه أكثر وأكثر، ولكن هنالك شيئًا هو وحده الذي احتل عقله وغزا لبه في نهاية المطاف، فكل هذه الكتابات بلون واحد! فهل يهبونهم قلمًا مع كل بطانية؟ أم يعطونهم فرشاة مع كل لحاف؟ ولكن ليس من حقهم أغطية، إذن يحضرون هذه الأقلام معهم؟ ولكن لماذا يختار الجميع هذا اللون؟! هل هو دليل على حركة سياسية أو اتجاه فكري بعينه؟ أخذ يتساءل في نفسه ويقترب من الكتابات، ويقترب أكثر وأكثر، وحينما دنت عيناه من الحائط، كانت الصاعقة، ويا لها من صاعقة، فأطلق صرخة مدوية وثبت مكانه جامد بلا حراك وكأنه تسمر.

***

  • صلاح بيه، صلاح بيه، هل أنت على ما يرام؟

بهذه الكلمات انتشل حمادة الدكتور صلاح من رجفته لما اكتشفه في تلك اللحظة، آثار الصدمة تكسو سحنته واضحة على ملامح وجهه، ظهرت جليًا في صوته وهو يرد على حمادة بحروف مهزوزة مرتعشة:

  • لا، لا، لا يوجد شيء.

ظل ينظر بتوجس للعبارات التي سُطرت بخط عريض يدل على آثار أربع أصبع، وأخذ يقلب بعينه بين هذه وتلك التي كشفت له حقائق مؤلمة دومًا ما كان يشعر بها، ولكنه كان على مدى الوقت يجعل من نفسه المواطن الشريف الذي يحاول إقناع عقله وملء قلبه بحجج هاوية من وحي خياله أو تلك التي زرعها الإعلام فيه، كالحفاظ على أمن البلاد والعباد، والمؤامرة الكبرى والخطة الملعونة وكل ما شابه هذه الادعاءات التي اعتدها وألفها العرب من السلطات الحاكمة الفاسدة، والتي دائمًا ما تكون فاسدة وظالمة، وكأن الظلم والفساد أصبح صكًا عربيًا ملكًا لنا لا يفارقنا ولا نفارقه. استأنف سيره لكي يتحاشى نظرات حمادة الساقطة عليه كالسهم المسموم، وأخذت تتردد بداخله جملة واحدة، أحقًا كتبوا هذا بدمائهم. كيف ومتى؟ فات أوان السؤال، وما نزعه من أفكاره إلا جلجلة صوت حمادة وهو يفتح باب المكتب بقوته المعهودة ويقول:

  • تفضل يا باشا.

فقرر صلاح ربط جأشه حتى لا يبدو عليه شيء من الانزعاج، ودخل المكتب المهيب شكلًا، فسارعه صوت المُسيف الجالس وراء مكتبه الفاخر:

– لماذا تأخرت يا صلاح؟ أنتظرك منذ ساعات طوال.

– أعتذر لك سيدي، ولكني قدمت إليك بمجرد إخباري.

– تفضل بالجلوس، وقبل كل شيء اعذرني، أنا أعلم أنك لا تحب هذا النفق، ولكن لديَّ اتصالات هامة للغاية من هنا.

– لا عليك، ولكن ما هذا الأمر العاجل؟

– اقرأ هذا الملف لحين أن تأتي قهوتك. اقرأه بعقلك، عقلك وعلمك فقط.

تناول صلاح الملف، وأخذ يقلب بين ورقاته صفحة تلو الأخرى، وعلامات الدهشة تتجلى على وجهه الشاحب، تتغير ملامحه من سطر لسطر، تزداد من ورقة لورقة، فيا لها من غرابة غريبة حقًا، بعضها يمثل له روعة يعجب بها، وبعضها يحيره فيستدعي خوفه، احتسى صلاح آخر شربة من قهوته، وعاد ينظر في الملف المُلقى على ركبتيه، أما المُسيف فقد زاد توتره وشبك يداه أمامه، وبدأ يصدر صوتًا خفيفًا من أسفل المكتب مما يدل على هزة رجليه، وهذا يعني أن التوتر قد بلغ أقصاه، فأدرك صلاح هذا سريعًا، فألقى نظرة عابرة على أواخر الورق، وأغلق الملف في حركة رشيقة وهلم يضعه أمامه، فجاءه صوت المُسيف سريعًا:

– أي الاعتقادات تكونت لك؟                 

– لا أراها القضية التي تستدعي كل هذا القلق، ولا المشكل الذي يبدو عويصًا، وإن كان الموضوع غريبًا والأمر ملتبسًا بعض الشيء.

– نعم! ألا تتخيل ما الذي سوف يحدث نتيجة هذا الطياش؟!

فأبدى صلاح اندهاشه وقال مستنكرًا:

  • طياش!

ثم أعقب بهدوء:

  • في كل الأحوال هذا الملف ليس من تخصصنا.

ما كاد ينهي كلماته المستفزة حتى فتح باب غرفة جانبية، وجاء صوت ما، يشبه الصوت الرجالي قليلًا، صائحًا بتوتر:

  • هناك اتصال من الفخامة سيدي.

فالتفت صلاح لمصدر الصوت، فوقعت عيناه على جسد يتناسب عكسيًا مع هذا الصوت، فيا له من جسد يتفجر أنوثة، طويل ممشوق كأنه مرسوم بريشة فنان، شعر طويل حرير فاحم السواد، ويا له من خصر ملفوف جذاب، كما يزينها هذا السلاح المُسدسيِّ المحشور أعلى استها، مما يزيدها أنوثة وولعة. أما المُسيف فارتبك بشدة، وجرت في عروقه هزة لسماعه هذا النداء، فقفز من وراء مكتبه يركض في اتجاه الأنثى ويتعتع بالكلمات غاضبًا:

  • الفخامة تتصل، وهذا يقول ليس من تخصصنا!

         وأخذ يسرع حتى اختفى داخل الغرفة، أتبعته تلك الأنثى في حركة نشيطة تليق بامرأة لعوب مثلها، رشيقة الحركة حسنة الدلال، وأغلقت الباب، فتناول صلاح الملف وفتحه من جديد وهو يغمغم هامسًا:

  • لماذا كل هذا التوتر والتأزم؟

ثم تابع في قرارة نفسه:

هذا ليس مهمًا، فتلك الفتاة هي الأهم، إنها حقًا لجذابة، أراها لأول مرة بينهم، ولكن ما الذي أتى بهذا الغزال وسط هذه الخراف، ثم أخذ يقلب بعينيه بين الورق، بينما تفكيره يقلب في جسدها، بعد ما يقرب من ثلث الساعة، وبينما هو كذلك، انفتح باب الغرفة الجانبية ثانية، خرج المُسيف، وقد غابت عن وجهه علامات الانفعال والانزعاج، بدا مسترخيًا، يتماشى بفخر وتثاقل كمَن خرج منتصرًا من معركة حربية، ومن خلفه تلك الأنثى تصلح من وضع مسدسها وتخصر قميصها لأسفل، فتفعل شيطان صلاح تلقائيًا ليخبر صلاحه خلسة:

  • لماذا هو مرتخ هكذا؟! منذ قليل كان يقفز مثل البط، والآن يخرج كقائد ظافر، لماذا مكث ما يقرب من ثلث ساعة بالداخل؟ أهكذا الفيخمان عاطل لكي يضيع مع مثل هذا كل هذا الوقت؟ ولماذا هذه الفتاة تصلح من ملبسها؟

استفاق صلاح من ركوب شيطانه فغمغم له:

  • كفى يا إبليس وسوسة وارحل عن أذني.

ما أنهى أفكار الشيطان عن صلاحه إلا وصول المسيف إلى مقعده، أما تلك الأنثى فوقفت على يمين المكتب، فأخذ يتفحصها بعينين ثاقبتين، متأملها من خصلة شعرها إلى أخمص قدميها، وفجأة إذ يقول المُسيف بنبرة أقل حدة عن تلك، تدل على استماتة قادمة:

  • يا دكتور صلاح، هذا الموضوع غاية في الخطورة، مما سيجلب للبلاد ما هي في غنى عنه، ولهذا كان يحدثني الفيخمان شخصيًا عن طريق الخطوط السرية، فلذلك يجب علينا وضع حل عاجل لهذا الأمر.

فقال صلاح في دهاء ومكر:

  • من الواضح أنه مهم للغاية حتى أن المكالمة استغرقت كل هذا الوقت، كان الله في العون سيادة المُسيف، فالنسر على الأسيف حمل لا يتحمله إلا مُسيف مثلك.

ثم ألقى نظرة سريعة باتجاه الفتاة الكائنة أمامه معبرة عن قصده، ففهمت سريعًا إلى ما يرمي، أما المُسيف فتجاهله وقال بلهجة كبرياء، وهو يشعل غليونه الفاخر ويميل بظهره للخلف منتفخًا برأسه:

  • إدارتكم هذه أنشئت في ظروف خاصة، كان إلزامًا علينا بأن نحتوي الشعب والرأي العام والمعارضين العاصيين وأمثال هؤلاء المتمردين حتى نستعيد قوتنا ونستأنف عملنا، لنمسك بزمام الأمور مرة أخرى، وكان الجميع وقتها ينادي بتطبيق حقوق الإنسان ودور الشباب في القيادة والمناصب وهذه الخزعبلات التي ملأت عقولهم وسيطرت على قلوبهم، فكنتم أنتم الثلاثة أفضل اختيار أمامنا لدراستكم المتميزة والفريدة في مجال حقوق الإنسان ولدرجاتكم العالية المسجلة في أعظم وأعرق جامعات العالم، بالإضافة إلى صداقتكم الوطيدة التي تدعم روح العمل، ولكن وبكل صراحة لم أقتنع يومًا بكم أو بعملكم، ولكني أنفذ الأوامر العليا، ولهذا تم إنشاء إدارتكم، ومنذ ذلك الحين نستشيركم في كل الأمور.

فجاء صوت صلاح مقاطعًا بسخرية:

  • مناصفة للحق، بالفعل تستشيروننا في كل الأمور، ولكن لم ينفذ منها للآن استشارة واحدة، فدائمًا لا تفعلون إلا ما تبتغونه.

فجاء صوت تلك الأنثى للمرة الثانية، ولكن كانت أكثر وحشية عن ذي قبل:

  • نعم لم ولن نأخذ بآرائكم لأنكم سطحيون، تدرسون كلامًا على ورق فلا تعرفون عن الواقع شيء، كيف نمارس الديموقراطية وحقوق الإنسان مع هذا الشعب الجاهل؟ أتعيشون معنا هنا، أم في كوكب آخر؟

فتجاهلها صلاح وألقى بنظره إلى المُسيف الذي سارع بقوله:

  • النسر جيلان الحسن من أكفأ حراس الجهاز

فقال صلاح وقد ظهر عليه حدة الانفعال قليلًا:

  • بما أننا سطحيون هكذا، فما شأننا وشأن ملفاتكم؟ فلنذهب لقراءة كتبنا، وتتعامل سيادة النسر مع الأمور، فمن الواضح أنها خبرة في التعامل الأمني، وأيضًا في أشياء أخرى.

فشعر المسيف بتفاقم الموقف فقال متبسمًا:

  • يا دكتور صلاح، جيلان لا تقصد مضايقتك أو إهانتك.

فلم يعره صلاح بالًا، فتابع بصوت هادئ وقور:

  • مكالمة الفيخمان كانت تؤكد وجوب إيجاد حل عاجل وتكتيكي لأنه يحتاج إلى دهاء وذكاء من نوع خاص، لأن مسألة الدين حساسة للغاية بالنسبة للشعب المصري، فلا بد أن نقضي على هذه الأزمة بشكل سلس وسري للغاية، لهذا سوف نجتمع في الثانية عشرة ظهرًا لمناقشة الأمر بعد دراستكم له.

فنهض صلاح:       

  • حسنا سيادة المسيف، سوف ندرس الأمر، ونضع الحلول الممكنة، وسنتواجد في الموعد المحدد، وقبل أن ينصرف ألقى لمحة من الازدراء على جيلان التي أدركتها غيظًا، ثم خرج وهو يتمتم:
  • متى نراكما قشعمين!

فمالت النسر على المُسيف، وقالت، وقد أضحيا نسرين وسيفين:

  • لا أعلم كيف تصبر على هؤلاء، خاصة هذا، إنهم ما زالوا صبية، فهناك خبراء قانون ونخب سياسية وحقوقية من أهل التعريض، والضاد صاد، في إمكانهم إصدار أي فتوى قانونية مهما كانت، كما أنهم قادرون على تفصيل مواد القانون وقتما وكيفما شئت.

فرد المُسيف متهكمًا:

  • أنا أنفذ أوامر القيادة العليا، والقيادة العليا تريد إرضاء الشعب، فيجب علينا نحن أيضًا إرضاء الشعب، ألا يقال إننا في خدمة الشعب؟!

فتعالت أصوات ضحكاتهما الساخرة التي قاطعتها جيلان قائلة:

  • المدير، لماذا صلاح؟
  • لأنه الشخص الأنسب لنا، فشخصيته ضعيفة لحد ما فليست له الجرأة الكافية لمواجهتنا، أو معارضتنا، فلو شخص آخر نزل هذا النفق ورأى ما رأى، فمن المحتمل أن يثرثر كثيرًا، وخاصة في الصحف والإعلام لتسلط الضوء عليهم.
  • بالنسبة لهذا الأمر لا تقلق فلا تنسَ أن الإعلام هو ابننا الغالي، وماذا بشأن جروان وعلاء؟
  • علاء يتمسك بالمبادئ القانونية والإنسانية ويعارضنا دائمًا، أما جروان فمنبهر بأسلوبنا في التعامل، ويتمنى لو كان ضابطا بيننا، ولكنهم يتفقوا في شيء، حبهم وصداقتهم الوطيدة مع صلاح، مما يدعم روح العمل بينهم ويسهل علينا مهمة التحكم فيهم، ولهذا فهم يعملون في مكتب واحد، وسوف تتعرفين أكثر على شخصياتهم وأنماط تفكيرهم في اجتماع اليوم.

انتهى المُسيف، وساد الصمت لحظات سرحت خلالها النسر، وحينما أفاقت من شرودها نظرت له فوجدت عيناه ترتكزان على نهديها البارزين من بين جناحيها، فابتسمت بخبث وسريعًا أخفتهما وعدلت لباسها، وأخذت تسير بتمايل ودلال إلى أن خرجت، بينما يتابعها سيادة المُسيف من خلف مكتبه بنظرات ثابتة ثاقبة على خلفيتها المتراقصة.

***

عاد صلاح أدراجه، وقد علت سحنات وجهه سحابة من الوجوم والكآبة، جلس على كرسيه صائحًا في محسن، فجاءه مسرعًا، فرمى إليه الملف الذي صعد بصحبته قائلًا:

  • استنسخ هذا الملف وأعطِ كل منهما نسخة.

فأسرع محسن ينفذ ما توجب عليه، أما جروان وعلاء فشعرا بالضيق الذي حل بمديرهما وصديقهما فبادر علاء:

  • ما أصابك يا صديق؟

وتابع جروان:

  • هكذا يكون عندما ينزل هذا النفق، إنني أتطلع بشغف لرؤيته حتى أعرف العلة التي تبغضك فيه.

فلم يجب صلاح، ولكن تكلم علاء متعجبًا مستغربًا:

  • أحقًا لا علم لك بما في هذا النفق يا دكتور جروان؟

خيم الصمت لبعض الوقت إلى أن قال صلاح:

  • محسن سوف يعطيكما ملفًا هامًا جدًا، استوصتنا عليه الفخامة كثيرًا، علينا دراسته بجدية، ووضع حل قانوني وسياسي عاجل، فهناك اجتماع لمناقشة مقترحاتنا في تمام الثانية عشرة ظهرًا.

فقال علاء بلا مبالاة:

  • ولمَ هذا التعجل؟ فإنهم لا يأخذون بتوصياتنا على أي حال.

فكان صوت صلاح هذه المرة حازمًا:

  • هذه المرة تختلف عن سابقيها، فإنهم في أمس الحاجة لنا، فآراؤنا وخبراتنا لها ثقلها اليوم.

فتدخل جروان:

  • وما هذا الموضوع؟

بسط صلاح رجليه أعلى المكتب، وأراح ظهره للخلف وقد شبك يديه، وأخذ يسرد:

  • تسع شباب وبنات، أعمارهم غير محددة، منهم من هو في الجامعة، ومن هو في مرحلة التجنيد، ومنهم من ما زال في الثانوية العامة، هؤلاء الشباب أقباط، أو بمعنى أدق كانوا أقباطًا.

فظهرت علامات الدهشة والفضول على جروان وعلاء وتساءلا معًا:

  • ثم؟

في تلك اللحظة دق محسن الباب، ودخل فأعطى كل واحد نسخته، فأمرهم صلاح:

  • اقرأوا لتعرفوا التفاصيل برُمتها.

فأخذوا الملف في عجلة ولهفة رغبة في معرفة دقائق هذه القصة المفاجئة.