كعادة كل جمعة، يجتمع الثلاثة للغداء في أفخم وأعرق مطاعم القاهرة برفقة ذويهم، صلاح كان متيمًا بمرغوبته منذ أيام الجامعة فكللها بعد الدراسة مباشرة، والتي نتج عنها سماء صاحبة التسعة عشر عامًا، وعلاء أَهل قرة عينه وأنجب ولدًا، أما جروان فتناكح وطلق مرتين، ومن ثَم قرر ألا يتزوج إلا عرفيًا، ولهذا فلا حصر لأزواجه العرفيات، بينما يتغذى كل بطعامه، تغير طبيعة علاء وشروده أدركته سماء، وما أدراك ما ومن سماء، فسألته:

  • ماذا بك يا عم علاء؟ إني أراك شاحب الوجه؟ ولماذا العمة لم تأتِ معك اليوم؟

فاستفاق علاء من شروده وعاد من غياهب أحواله ليقول:

  • لا عليك يا غادتي فأنا بخير كل الخير، أما العمة كالمعتاد لديها أشغال هامة اليوم.

ألقى صلاح ببصره على وجه صديقه لتصفحه في محاولة لقراءة ملامحه ومطالعة أحواله، أما جروان فحدق ورنا إلى كليهما متعجبًا:

  • أهذا كله بسبب الملف الشؤم؟ لقد سحب منَّا، فلما إذن هذا الغضب العارم؟

يرمقه علاء بنظرة عابرة، ثم يرمق جميع الحاضرين بأخرى سريعة، ويستأنف غداءه قائلًا:

  • لقد نويت واعتزمت الاستقالة من هذا الجهاز.

ثم يعاود النظر في عيونهم مستكملًا:

  • وهذا قرار نهائي لا رجعة فيه.

فيتطلع الجميع متعجبًا، أما جروان وصلاح فيصابان بدهشة وغرابة غير متوقعة، فيقطع عليهما حيرتهما مستأنفًا:

  • لقد قررت السفر الأسبوع القادم لأداة عمرة، ثم الرحيل لدبي، فهناك شركة كانت تطلبني لإدارة الشئون القانونية بها، وأحجمت عن الرد آنذاك، ولكنهم مازالوا يرحبون بي كثيرًا لهذا سأنضم إليهم.

فظهر الاستنكار والتعجب والاستياء على صلاح ولكنه بقي صامتًا ساكتًا من آثر المفاجأة، أما جروان فقد اجتاحه غضب شديد وداهمه حنق أشد وهو يصيح بصوت مرتفع قليلًا:

  • ما هذا الذي تقوله؟! نحن أصدقاء في الدراسة وزملاء في العمل، وغير كل هذا إننا أخوة منذ أن التقينا، ولا يصدق أن نفترق بسبب عقبة في اختلاف الرأي أو عائق في وجهات النظر.

فيرد علاء وهو أكثر حلم ورزانة:

  • قراري ليس بسبب هذه القضية فحسب، ولكن لا رغبة لي في العمل بعد اليوم في جهاز أو جهة أختلف معها كليًا في سياساتها الوقحة الفاجرة.

في إبان الحديث دق جرس هاتف جروان، فقام بدوره بالرد فلم يقل سوى:

  • نعم، إني لمتذكر.

فعاين بعين مرتجفة صلاح وعلاء، ثم نهض بعيدًا ليستكمل مكالمته الهاتفية، ساد الوجوم وتزعم الاكتئاب وترأس الهم، حتى ثارت سماء بضحكتها المعهودة وصوتها المأنوس وخفة ظلها على الوضع الراهن بقولها:

  • سهلت لك الأحوال وسيغت لك الشئون، ما خطتك يا عم؟
  • أذهب أولًا للمملكة العربية السعودية بلد الحرمين الشريفين.
  • إذن ستزور الكعبة الشريفة وقبر سيدنا محمد؟
  • عليه صلوات ربي وسلاماته، بكل تأكيد فلا قدوم ولا وفود إلا لهما ولا أجر ولا ثواب إلا بهما.
  • تأذن لي أن ألتمس منك شيئًا؟

فراحت الأبصار نحوها، ومالت الآذان صوبها، تتلهف لسماع ما سينفجر من بين شفتي هذه الفتاة، حسنة الفرة ذات الجسم القصير والحجم الضئيل والعقل الرصين، فصيحة اللسان بليغة التعبير، فتابعت بلغتها الأنثوية الرقيقة:

  • عندما ترى قبر حبيبي المصطفى أرسل له سلاماتي، أبلغه تحياتي، أخبره بأنني أشتاق لرؤيته، أعلمه بأنني أتوق لشم عطره، أنبئه بأنني أحن لملامسة يده، لتقبيل رأسه، أطلعه بأنني أطمع في التطلع إلى عينيه، أرجو سماع تغريد أحرفه، فكم تمنيت أن أعيش في عصره، أو أن ألمحه في منامي، ولكني أحيا على أمل أن ألقاه في الجنة كما وعدنا مصطفين حوله على ضفتي الكوثر، أعلمه بأنني طامعة راغبة تائقة لشفاعته، فإني أسير على سنته وألتزم بأوامره، أروي له أنني في كل ليلة أسطر له في مفكرتي رسائلي بينما الدموع تنهمر من جفوني، فإني ورب الكعبة، ربي وربه، لقد اشتقت له حقًا، فهو قدوة نهاري وأسوة ليلي وحبيب قلبي ولن أرضى بغيره من البشر بديلًا.

فرقرقت أعينهم جميعًا لما سمعوا من تلك الصبية، بريئة القلب نقية اللسان طاهرة النية، وهم يرددون:

  • أفضل الصلاة وأتم السلام عليك يا حبيبنا يا رسول الله.

كانت قابعة بجوار علاء فأخذها بين أحضانه، وهو يربت على كتفيها، فقالت:

  • قدرك أفضل من قدري يا عماه؟
  • لماذا يا بنتاه؟
  • أنت ذاهب لأداء العمرة، أما أنا فمرتحلة لألمانيا، وصلني اليوم خطاب من معهد جوتة – المؤسسة الثقافية المسئولة عن المدارس والمعاهد الألمانية في مصر – يخبرني بفوزي بمنحة دراسية، ولذلك سوف أسافر الأسبوع المقبل لدراسة النصف الثاني من هذا العام في ألمانيا.

فقال علاء وهو يطبع قبلة على جبينها:

  • نجاح مبارك عليك يا مدللة عمك.

ثم أردف:

  • بالطبع يا غادتي بلاد الحرمين هي أشرف البقاع وأطهر الأصقاع، ولكن يتوجب علينا التجوال والتطواف والانتقال والارتحال في جميع الأرجاء لنتعلم منهم كما تعلموا منا في الأزمنة الماضية، يقتضي علينا الانفتاح على من حولنا حتى ندرسهم ويدرسوننا، وننقل منهم وعنهم ما يفيد ديننا وينفع دنيانا ونتجنب ما يسيء إلينا ويفسد بلادنا.

يجب علينا التحاور معهم لنشرح لهم ديننا ونفسر نظرياتنا ونوضح أفكارنا لهذا فمحتم علينا تعلم لغات الآخرين من كل الأجناس والأعراق حتى نترجم لهم أدبنا وثقافتنا، فأقوى ما يتسلح به الإنسان هو العلم، وهذا ما ينقصنا الآن في بلادنا العربية والإسلامية، ومع العلم يلزمنا التحلي بحسن الخلق وشيم الكرام حتى نبرهن أن النبي الكريم لم يأتي بالسيف قط إنما جاء بالرحمة المهداة للعالمين، عليك أن تعلمي جيدًا أن الثقافة سلاح قوي يزيد الشعوب عراقة وأصالة، فبدون الثقافة العراقة والأصالة لا تبقى، ومع الثقافة العراقة والأصالة تنقلب لتمدن وازدهار وتبقى وتظل إلى أن تثبت وتستقر، فاذهبي يا بنيتي حيث شئت، وسبحانه وتعالى سيوفقك طالما قصدتِ طريق العلم، ونهجتِ درب السلام ليسود العالم بأسره، وتذكري دائمًا أن الإسلام ورسوله أتيا بالسلام للعالم أجمع لا بالقتل ولا بالذبح ولا حتى بالعدوان أو بالظلم على أي إنسان مهما كانت جنسيته أو ديانته، وأخيرًا يجب عليك ألا تنسي مصريتك وعروبتك مهما طال بك الزمن خارج الوطن، فحينما وحيثما ينادي بك الوطن تواجدي في الحال.

فانتفضت سماء من بين ذراعيه وهي تجهر باستنكار واستياء وقد جحظت عيناها:

  • ماذا تقول يا عماه؟ آتي حقًا للوطن عندما يستغيث بي! آتي حتى يكون مصيري مصير ابنك! آتي للوطن حتى يكون مصيري كمصير وائل! آتي لوطني حتى أقتل في ملاعب كرة القدم، كوائل الذي طلب إرجاء سفره لمدة يوم واحد حتى يشاهد مباراة الأهلي والمصري في الاستاد، فسافر لمدى الحياة، أم آتي لأقتل في أحد الميادين، وما أكثرها، أم آتي لأقتل في معتقلات الجهاز الذي تعملون به حتى تعطوه شرعية للعمل كما شاء، أم أتي لأقتل وفي يدي وردة كشيماء الصباغ، أم كيف وأين تريد أن أقتل يا عماه؟!

لقد نالت كلماتها منه، فذكرته بالابن الطفل المعاند، آه ثم آه ويا ألف آه، فلماذا لم يطع والده ويرحل معه لخارج البلاد في ذاك اليوم العاثر؟ لماذا أصر وألح ليسافر بورسعيد ليشاهد هذه المباراة؟ ولمَ يحب الكرة؟ ولمَ يتابعها؟ ولمَ ولمَ؟ يسأل نفسه كثيرًا ولكن ما من مجيب، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم بسط يده وقبض على يديها، فوجدها مرتعشة خرعة باردة فسارعت بقولها وهي ترتجف وعيناها تدمع:

  • سامحني يا عماه لم أتعمد أن أذكرك بـ …

فقطاعها ببسمة حزينة خلطت بين حبه لها واشتياقه لولده، فارتمت بين أحضانه، فدنها من صدره ثم أمسك برأسها وأطال النظر في عينيها قائلًا:

  • المجتمع العربي يا بنيتي فيه من الظلم والطغيان والاستبداد والاضطهاد والإجحاف لو وزع وقسم على الكون بأسره لشبعت الأرض واكتفت البحار وقنعت المحيطات وامتلأ الفضاء.
  • ومتى سيأتي حاكم عادل؟ فمتى يأتي من هو مثل عمر بن الخطاب؟ أليس هناك فاروق آخر؟
  • لن يأتي من هو مثل عمر إلا إذا كنا نحن مثل رعية عمر، فلا يأتي حاكم ظالم قط إلا وكانت رعيته سابقة الظلم، هناك بعض الشعوب غير الموحدة أقام شعبها العدل بينهم واستقاموا ووحدوا صفهم، فجئ لهم حكام عادلين وقادة مقسطين وقضاة منصفين، وهناك بلدان غير مسلمة حرص شعبها على العمل والتعاون والعلم والبحث والاكتشاف، فأصبحت أقوى دول العالم وأعظمها، فالله لا يضيع أجر من أتقن وأحسن عملا مسلما كان أو لا، ونحن لا نحسن العمل ولا نعمل في الأساس، لا تجعلي اليأس يتملكك ولا القنوط يستحوذ عليك، قتل وائل ظلمًا ومن قبله سحق وهلك المئات ومن بعده سيباد وسيزهق الآلاف، ولكنهم ماتوا مرفوعي الرأس أبطالًا شهداء، أما اليأس فسيقتل أيضًا الملايين ولكنهم منكسرون خاضعون أذلاء، الله لن يسأل المئات والآلاف الصادقين الذين ماتوا من أجل الحرية والإنسانية بل سيعدهم شهداء مكرمين معظمين، ولكنه سيسأل الملايين الصامتين عن سكوتهم وسكونهم وإطراقهم عن الظلامة والتعسف والحيف والقهر والتسلط والتفرد، وإن حتى لم يطبلوا لهم.

في تلك اللحظة قدم جروان بعدما أنهى مكالمته، فسكن الجميع، فمن استأنف الأكل، ومن أطلق العنان لخياله، ومن أبحر في ذكرياته، ومن غاص في ماضيه، فكل في واديه.