دقت الساعة المركزية دقتها الكبرى لتعلن عن تمام منتصف النهار، فانتبه صلاح للوقت، وأخذ يطرقع أصابعه ورقبته، ثم سأل رفاقه:

  • أنتهيتم؟

فجاء رد جروان وهو ممسك بهاتفه:

  • انتهيت منذ ساعة، والآن ألعب صاب واي.

فالتفت إليه صلاح بنظرة عابرة، وتجاهله، ثم دار وجهه لعلاء:

  • علاء، فرغت منه؟

استغرق علاء ثواني معدودة في متابعة القراءة ثم أغلق الملف، وقال:

  • انتهيت.

ثم تابع في اندهاش ورضا نفسي:

  • سبحان الله.

فتوجه صلاح ناحية جروان:

  • انتبه معنا في الحوار وكفى لعبًا.

فقال جروان وقد وضع الهاتف أمامه على المكتب:

  • رأيي أن هؤلاء الشباب توافه.

فسأله علاء في استنكار:

  • وماذا تعني بتوافه؟
  • أعني أنهم لا يريدون الدين حقًا، وإنما هدفهم ظهور إعلامي، وشهرة لامعة اعتمادًا على مبدأ خالف تُعرف.
  • ولماذا استنتجت هذا أيها المفتش؟
  • من منكم يستطيع أن يفسر لي لماذا يريدون إشهار إسلامهم الآن بعد أن صبروا كل هذا الوقت؟ ولماذا يريدون عقد مؤتمر عالمي ليشهروا من خلاله إسلامهم؟

فقال صلاح:

  • فكرة هذا المؤتمر وإعلان إسلامهم الجماعي هي ما تقلق الدولة حاليًا.

فرد علاء بكل ثقة:

  • طبقًا لما قرأته في التقرير فإنهم لم يعلنوا إسلامهم خوفا من أهاليهم، ومن رد فعل الكنيسة التي بكل تأكيد لن تسمح ولن تغفر لهم هذا، ولذلك أردوا أن يعقدوا مؤتمرًا عالميًا تحت قيادة الأزهر حتى يُجبر الجميع على الاعتراف بهم، وتلزم الدولة والمنظمات الحقوقية بحمايتهم وعدم المساس بهم.
  • هذه أفلام سينمائية يا دكتور، وأيضًا أنا لا أطمئن لهذا الدكتور المسلم الذي يقودهم وكان سببًا في إسلامهم، فمن جانبي هؤلاء الشباب لا يسمح لهم بالدخول في الإسلام إطلاقًا، والأزهر سوف يساعدنا على هذا، وإن تعقدت الأمور بعد كل المحاولات لإجبارهم على ترك الإسلام وأصروا، فليعتنق كل منهم في سرية تامة بدون قلق أو إزعاج، فالدولة لا تحتمل مشاكل أو مصادمات مع الكنيسة، أو مؤسسات التبشير الدولية.

فجاء صوت علاء مستنكرًا وقد بدا عليه بعض الضيق:

  • أأنت مجنون، أم التفكير العلماني قد أثر على دينك ومبادئك؟

ثم تابع علاء بثقته المعهودة وبنبرة رجل له الحجة، طويل الباع:

  • لقد درست السياسة والقانون، سمعت الموسيقى باختلاف ألوانها، قرأت في الأدب العالمي بكل أشكاله، اطلعت على العهد القديم والجديد، قارنت في مختلف الأديان غير السماوية، عشت في الغرب والشرق، صادقت أناس من كل الأجناس ومن كل البلاد، ولكن هذا لم ينسني يومًا إسلامي أو عروبتي، ولم أكل يومًا في الدفاع عنهم بالحكمة والموعظة الحسنة، أليس من حقوق الإنسان التي أضعنا شبابنا في دراستها في أعرق جامعات العالم، أن يختار كل إنسان ديانته وأن يمارسها كما يرغب، كما أن على الدولة حمايته والآخرين احترامه؟

فحاول جروان مدافعًا عن وجهة نظره:

  • أنا أتحدث بالمنطق ولا يهمني سواه، فهذه العواطف لا مكان لها اليوم، تخيلوا معي هذا السيناريو. أولًا، الأزهر وعممه أجبن من أنهم يتولوا مثل هذه المهمة بدون موافقة الجهات الأمنية، ثانيًا إن عقد هذا المؤتمر المزعوم بالأزهر أو بغيره الكنيسة بالطبع سوف ترفض وتهاجم هذا الإشهار بكل قوتها، ولهذا ستوجه حركاتها وجمعياتها الخفية لاحتواء الأزمة وكلنا يعلم ما للكنيسة من قدرات، مما يجعل المسلمين يقومون بالرد والدفاع عنهم، وكل هذا سيؤدي بكل تأكيد لملء نفوس المسلمين والمسحيين بالحقد والكراهية، وتصبح فتنة طائفية نحن لسنا بحاجة إليها.

فتوجه علاء إلى صلاح:

  • أتسمع ما يقول؟
  • نمط تفكيره مطابق تمامًا لتفكيرهم، ولولا أنه صديقنا لحسبته منهم.

فجاء صوت جروان ضاحكًا في محاولة منه لغيظ صديقيه:

  • إنه لشرف لي أن أكون حارسًا به، فهو من أقوى الأجهزة الإقليمية في المنطقة.

فأردف علاء في عجالة:

  • وأقذرهم أيضًا.

حينما سمع صلاح كلمات علاء سرح بخياله قليلًا، لقد سمع هذه الكلمات، أو رآها من قبل، فتساءل في نفسه:

  • أين قرأتها؟ أين سمعتها؟

وحينما تذكر انتابته قشعريرة باردة سرت في جسده، إنها القشعريرة الثانية في نفس اليوم، ولنفس السبب، رآها مكتوبة على إحدى جدران ذلك النفق، إنها أيضًا مرسومة بالدماء، كانت واضحة تترد في فكره، وتظهر كشريط عرض أمام عينيه:

(القذارة ليها ناسها).

ولم يشعر بشيء إلا عند صياح جروان به:

  • لقد تأخرنا على الاجتماع، فهيا بنا.

توجه الثلاثي للطابق الأعلى حيث الحجرة المركزية للاجتماعات الخاصة بالهيئات العليا التابعة مباشرة للمسيف، وفي طريقهم مروا بعشرات الممرات التي يتفرع عنها مئات الغرف الصغيرة المخصصة لمتابعة العمليات المدنية في الأقطار المائة، وفي داخل الحجرة يجلس المُسيف على رأس المائدة وعلى يمينه سيدة، حينما أبصرها صلاح توقف عن السير، أما عند وقوع نظر جروان عليها قال وهو يوجه سهامه إليها:

  • إنه لأفضل اجتماع أحضره هنا.

فرمقه صلاح بنظرة صامتة، أما علاء فصاح بهما:

  • لمَ توقفتما هنا؟ تقدما يا رفيقيَّ.

فسار الجميع نحو المائدة المستديرة، فحيوا المُسيف رئيس الاجتماع، وجلسوا على الجانب الآخر المقابل للأنثى:

فقال المُسيف:

  • قبل ذي بدء، أعرفكم بسيادة النسر جيلان الحسن، خلفًا لحيات العاصي، والتي سوف تتولي هذا الملف الذي سنناقشه اليوم.

فرسم علاء وجروان ابتسامة مجاملة على شفتيهم، أما صلاح فلم يتجاهل حدة الحوار الذي دار بينهم في الصباح، وتابع الجميع الاجتماع، عرضوا أفكارهم وآراءهم، وما أن فرغوا من الحديث عن وجهات نظرهم، حتى نظرت جيلان لجروان قائلة:

  • من الواضح أن كل ما سمعته عنك صحيح ويبعث على الأمل.
  • لعله خير!

فأجابت وعلى شفتيها ابتسامة لا تخفي خبثها:

  • بالطبع كل خير، فأنت مكانك ومقامك أرفع وأعلى شأنًا، ومن الأجدر أنك تكون واحدًا منا لأنه سوف يكون لك مستقبل مبهر.

فقال جروان وهو يطرف بأحد رمشيه:

  • بكل تأكيد إن العمل مع سيادتك سيكون مبهرًا، وممتعًا أيضًا.

قاطعهم المُسيف بقوله:

  • سوف أبلغ الفخامة بكل اقتراحاتكم، ولننتظر الرد.

فانصرف الجميع ما عدا جيلان، فمن الجلي للعيان أن مهمتها لم تنتهِ بعد، وفي خلال عشر دقائق استقبلت الفخامة التقارير بما فيها من اقتراحات وحلول.