تفتح الأم الباب فيتبادر صوت فتاة جميلة ممشوقة طويلة متناسقة بيضاء ترتدي إسدال صلاة بيتي:

  • السلام عليكم خالتي الحاجة.
  • وعليكم السلام.
  • أعتذر من هذا الإزعاج، أنا جارتكم الجديدة ولسوف أقيم في هذه الشقة المجاورة.
  • أهلًا ومرحبًا بك يا بنيتي.
  • أشكرك كثيرًا، عذرًا ولكن لا أعرف اتجاه القبلة، لأنني أريد أن أصلي ركعتين لله لمباركة هذا المسكن حتى يجعله الله مأوى الخير ومثوى العطاء والإحسان.
  • ولكن يا بنيتي نحن …

في هذا الوقت تتدخل رواية مقاطعة والداتها وتسير في اتجاه الجارة لتقول بتدفق في لهفة واندفاع حماسي:

  • أنا أعرف اتجاه القبلة، أهلًا بك، أنا اسمي رواية.
  • وأنا اسمي إيمان.

مع هذا القول تتطلع أم إسحاق بنظرة ريب وتعجب إلى ابنتها، فتدرك رواية خطأ ما وقعت فيه، فحاولت تصحيح الموقف وتعديله فقالت بصوت مذبذب وهي تحدق في عين والدتها:

  • عرفت اتجاه القبلة لأنني عندما كنت أزور جارتنا كنت أراها تصلي.

شعرت إيمان بأن هناك شيئًا غريبًا أو التباسًا ما قد حدث، فنظرت لأم إسحاق، فتعلق ببصرها الصليب المُعلَق حول عنقها، فأحرجت كثيرًا وقالت خجلة آسفة:

  • متأسفة، لم أكن أعلم.

فقاطعتها قائلة:

  • لا عليك يا بنيتي فكلنا أخوة.

وأشارت لرواية:

  • اذهبي معها مسكنها، وأعلميها باتجاه القبلة.

ذهبت رواية معها، وأغلقت الأم الباب خلفهما، ثم غمغمت محدثة نفسها في استنكار:

  • كيف تعلمت من جارتنا، وأنا لم أراها تفترش سجادة من قبل، أو حتى تفقه شيئًا في دينها!

دخلت رواية مع إيمان الشقة، فتناولت الأولى السجادة ثم وجهتها ناحية القبلة، فشكرتها الأخيرة على لطفها ومساعدتها لها ثم سألتها:

  • ما هي دراستك؟
  • أدرس في كلية الألسن قسم لغات شرقية وإسلامية (تركي – فارسي)، وبجانبها لغة ثانية، اللغة السواحلية، وأنت ما هي دراستك؟
  • أنا خريجة كلية سياحة وفنادق، وحاليًا أعمل كمديرة تنفيذية للمركز العالمي للغات.
  • سبحان الله فمجالنا واحد، أتمنى أن نكون أصدقاء يا أستاذة إيمان.
  • أكيد سوف نصير أصدقاء وأخوة أيضًا، ولكن لا عليك بأستاذة هذه، فادعيني بإيمي.
  • إذن سوف أناديك بإيمان، لأن اسم إيمان مبهر وذو دلالة ومعنى جميل نقي مما يعجبني كثيرًا فله مذاق خاص.
  • اتفقنا عزيزتي، وإن كان اسمك أجمل كما أنه مميز للغاية، انتظريني سوف أتركع سريعًا، ثم نجلس نتسامر معًا.
  • سأنتظرك لكي نتحدث كثيرًا، وأساعدك أيضًا في تدبير وتنظيم الشقة.

شرعت إيمان في الصلاة، بينما ظلت رواية تراقبها عن كثب، وقلبها مليء بمشاعر روحانية صافية فياضة، كم تتمنى البوح عن كثير وكثير مما يكمن بداخلها، تأمل وتشتهي من أعماق قلبها أن تصطف بجانبها لتتلو معها بصوت جهور، ولكن للخوف نصيب الأسد، ولكن مع كل ذلك، تشعر بارتياح واستبشار بعدما كان يختلج قلبها ويرتعش رجفًا وفزعًا، وإن كانت لا تعلم مصدر هذه الطمأنينة والسكينة، في هذه الأثناء انتبهت فاطنة لصوت إيمان الجهور التي تتلو بصوت عذب متقن مأنوس رقيق رائق قوله تعالى من سورة يوسف: ﴿إنَّهُ مَنْ يَتَّق وَيَصْبرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجْرَ الْمُحْسنينَ﴾[يوسف:90]، فانتابتها قشعريرة انتفاضتها، فخضخضت ورجرجت معها روحها وقلبها، فأدركت وعقلت أنها رسالة ربانية، وما أن فرغت إيمان من صلاتها دق الباب، ففتحت رواية، فإذ بأم إسحاق حاملة بين ذراعيها صينية بها ما لذا وطاب مما يكفي لإشباع البطون، فدخلت وهي تقول:

  • مما لا شك فيه أنك يا بنيتي جائعة، وأيضًا رواية بلا محالة، فهي دائمًا جائعة، فهيا بنا نأكل سويًا حتى يكون بيننا عيش وملح.

فشكرتها إيمان باحترام وخجل وأثنت على معاملتها العطوفة، وحسن ضيافتها، ودمث خلقها، وجلسن حول المائدة، وفي إبان الأكل بادرت أم إسحاق بسؤالها لإيمان:

  • ستقمين بمفردك؟ أين زوجك وأولادك؟
  • لم أرزق بأبناء، سوف أعيش بمفردي لحين عودة زوجي، فهو يعمل بالكويت وإجازته الأبدية قريبة إن شاء الله.

فشاركت رواية في الحوار قائلة:

  • أسعدكما الله.
  • اللهم استجب، أبهجك الله بزوجك المستقبلي وعجله إليك بخيره لا شره.
  • يا رب، يا رب، يا رب، فليأتِ هذا اليوم سريعًا.

فقالت أم إسحاق بلغة بشوشة باسمة وهي تتطلع إليها:

  • ولمَ هذه اللهفة؟ أهذا كله من أجل المهندس؟

رواية بلغة طفولية:

  • نعم من أجل مهندسي العاشق.

فنحنحت إيمان وهي تغمز بطرف رمشها:

  • احم، احم، لأعرفن من العاشق هذا، ولكن ليس الآن.

ثم تتابع مستفسرة:

  • أتعيشان أنتما أيضًا بمفردكما؟

يقع السؤال كالصاعقة، فتنظر الأم لابنتها وتغرقان في صمت عميق، يتراسلان بلغة العيون التي لا يفهمها أحد سواهما، يتبادلان ما مضى وانقضى في إشارات وصور لا يفقهها بشر غيرهما، وبعد ثوانٍ معدودات مرت على إيمان كأنها الدهر، فهي على استحياء وخجل من جريمتها العفوية، آه لو في الإمكان جزر اللسان من الجذر، واتباع ما انبثق وانسل من الفم لابتلاعه حتى يعود أدراجه قبيل إتيان الأذن وإدراك العقل، لفعلت، ولكن أدركت الفأس الرأس فلا مفر، فهي لا تدري لماذا هذا الحزن والشجن المتراكم على وجهيهما، لا تعلم لماذا هذه التعاسة والغمة المنحوتة في ملامحهما، لماذا هذه الجنازة والمناحة التي تعشقتا فيها، وما زاد الأمر سوءًا أنها لا تعلم بماذا أو لمن أو عن أي شيء تعتذر، قامت الأم من مقعدها في استياء وابتئاس مدحرجة كلامها بنبرة متقطعة مذبذبة متحسرة:

  • إني لمكدودة منهوكة اليوم من أعمال المنزل، لذلك سأنهض للفراش، لقد تشرفت كثيرًا بمعرفتك يا بنيتي.

ثم أدارت كلماتها لرواية دون أن تدير لها وجهها، هاربة عن عمد مما قد تشتبك فيه العيون مستأنفة الغرق فيما أثقل القلوب:

  • ابقي معها لتسعفيها في تنظيف مسكنها وتنظيم أغراضها.

انصرفت أم إسحاق، واصطحبت معها حزنها وشرودها، وتولت إيمان رفع الفائض بحاملته، وصنع الشاي، أما رواية فغلبها تفكيرها، وقد أفلح في استرجاع الأوقات العصيبة التي تحاول مرارًا وتكرارًا نسيانها وإهمالها حتى تتفاداها وتتلافها، ولكن ما زالت تواعها برمتها، تتذكر جميع كلمات الحب والرقة والحنان واللطف التي كانت تصل إلى مسامعها طوال الليل والنهار، تتذكر تلك الجمل المرهفة الليونة التي تتلهف لسماعها جميع بنات حواء، تتذكر جيدًا عبارات التعشق والهيام والولع والغرام التي كانت تُسعد بنات جنسها جميعًا حينما تترامى إلى أذنهن، واأسفاه، ما كانت هذه الأقوال تنبثق من أجلها ولا تلفظ لها، ولا كانت هذه المشاعر الودية الودودة الفياضة نحوها، فكان هذا الحشو بكلمات التتيم وحروف الهوى يقال وينطق من أجل جميع نساء الأرض ما عدا اثنتين! رحل الوالد عنهم وهي نطفة في الرحم، فعندما قرعت باب الدنيا لم تجد سوى الأخ والأم، فمنذ طفولتها المبكرة، تشعر بفقدانها لحب وحنان الأبوة، فقلب الأب لا يمكن إبداله أو إحلاله بآخر مهما كان من هو، وحبه وحنانه متفردان لا ينبثقان إلا من منبع واحد لينبتن في مصب واحد، وعندما أتمت الثالثة عشر، وقتئذ كان إسحاق يقضي أيامه من عامه التاسع عشر، وهو ذو قلبين ذو وجهين ذو لسانين، يمتلك قلب رحيم عطوف ووجه وسيم مشرق بلسان عذب مليح مع كل فتيات الكون، كما له أيضًا قلب آخر عنيف قاس ووجه عبوس مكفهر بلسان متسلط مع أمه وأخته، تصغي له وهو يهاتف بنات جنسها مخاطبهن بأحسن وأوسم العبارات العاطفية، وحينما يراها يتحول لثور وقح، سليط اليد سليط اللسان، ويتبدل لأفعوان يثعب سموم لا ترياق لها ولا راق منها، وهذا ما جعلها تشعر بفقدانها الأبوة والأخوة معًا، آه وألف آه من اندثار الحب العائلي وضياع الحنان الأسري، فكم تمنت لو أب أو أخ يحاصرها بين ذراعيه، يحتضنها بقوة، يلثم خديها، يطبع قبلاته على جبينها، يلاعب شعرها، ولكن وحسرتاه، فالأب ميت الجسد والأخ ميت الروح! انصاعت رواية وأمها لقدرهما، ومع الأيام خنعوا، وبالليالي استكانوا، ومن ثم أخذوا يتعكزوا على بعضهم البعض، فلا منقذ لهما إلا ترابطهن معًا، ولا عزاء ولا سلون لهن سوى صداقتهن سويًا، صبروا على قدرهم وتعايشوا معه، حتى جاءت تلك الساعة بما تحمله من نبأ، ويا له من نبأ عظيم، وكأن القدر أبى باصطبارهن، لم ينتشلها من هذا الارتحال الشاجن في الماضي الأشجن إلا صوت إيمان وهي تخاطبها:

  • فيما يسرح قمرنا بخياله مطلقًا أعنته؟

فانتبهت رواية واكتفت بابتسامة عابرة، ومن ثم أخذتا تحكيان في أمور الحياة.