بداخل قاعة الأستاذ الدكتور السيد السيد سهيم بكلية الألسن، حيث يعقد مهرجان الألسناوية للتعريف باللغات والثقافات الأجنبية، يُعلن منظم المهرجان عن المتحدث التالي ألا وهو المنسق العام لرابطة (لغوي)، فما أن نطق بأحرف الدكتور أنس حتى قام من وسط الصفوف الأولى شاب فارع الطول، أنيق قصير الشعر، ذو طلعة حسنة، يرتدي بدلة سوداء توسطها رابطة عنق زرقاء، وأخذ الجمهور التصفيق بحرارة، وبمجرد أن وصل هذا المعيد الشاب إلى المنصة وتطلع، فوجد أمام عينيه أناس طالما تمنى من أعماق قلبه أن يصطفوا أمامه ليتحدث فيهم، فبعد البسملة، وحمد الله، والصلاة على أشرف الخلق، عليه الصلاة والسلام، أخذ يقول بلغته الرفيعة:

  • ألا تسمحون لي أن أحدثكم اليوم حديثًا من القلب، حديث ابن لأبيه، وإن كانت الكلمات جافة نازعة والمعاني محرقة موجعة، فأرجو أن تتقبلوه مني، فهذه هي حقيقة الحقيقة في كل زمان وأوان.

ثم أردف:

  • أساتذتي الكرام، ما من معلم إلا وله مهابة لدى طلابه، قد تكون مهابة تقديرية وقد تكون مزيفة، وهذه المزيفة تكون ناتجة عن الخوف من سلطته، اتقاء لشر بطشه، أما المهابة التقديرية فهي مؤقتة تسير في اتجاهين لا ثالث لهم بمجرد الحديث أو التحاور مع هذا المهيب، فإن كان يملك بجانب شهادته العلمية وخبرته المعلوماتية بعض الصفات الإنسانية والاجتماعية وليس بالضرورة كلها، صار هذا المُهيب من معلم واجب تقديره إلى مثل أعلى، وُجب له الامتثال والامتنان بحُب فياض ينتهي دائمًا بالدعاء له، وإن كان يعتريه بعض الكبرياء، أو شيء من الغرور فسوف تصير هذه المهابة التقديرية لنظرة استهانة وازدراء، وإن وجدت بعض المهابة فهي تصبح مزيفة لا أكثر.

دوى صوت الصفير والتصفيق والهي والهاه في القاعة المكتظة بالطلاب والطالبات والتي طابقت كلماته ما تكنه قلوبهم وتخشاه ألسنتهم، ولكنه تابع بلغته الشجاعة:

  • فإن كان من حقك أن تصبح معلمًا لخبرات وشهادات مزخرفة ومعلقة خلف مكتب فخامتك، فمن حقي كطالب أن أختار معلمي ومثلي الأعلى لما يتراضى مع أخلاقي وطموحاتي، وليس لما يتراضى مع شهادتك الورقية.

وأخذ يستأنف والعقول موجهة إليه، والأذن مصغية له والأعين مصوبة نحوه، إعجابًا وحبًا من جلساء المدرجات، وضيقًا وغضبًا من جلساء المنصة فكادوا يتطيرون شتتًا:

  • بالنسبة لي لم أترك فرصة مناسبة إلا وتحاورت مع أحد أساتذتي، والحمد لله وجدت فيهم من هم أرقى من أن أتخذهم مثلًا أعلى لما يملكونه من التواضع والحلم والوقار والحب والحنان الأبوي للطلاب بجانب علمهم الغزير وخبراتهم المتدفقة، ولكن وا أسفاه ما كانوا إلا العُشر، أما الأغلبية العظمى فلا أستطيع وصفهم أو معرفة جوانب شخصياتهم، لأنني لم أحصل على شرف الحديث معهم وهذا لسبب صغير للغاية وهو سمة الكبرياء المتغطرسة السائدة بينهم، والتي يبررونها بوضع حدود بين الطالب ومعلمه، وكأنما نسوا أن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يضع حدودًا بينه وبين أمته وأحبابه، فتذكر معلمي الفاضل أن من أعطاك هذا العلم وهذا المنصب هو ذاته المُكلف بنشر هذا العلم والعدل فيما نصبت به وفيه.

فعليك أن تعلم أيها المهيب إذا أعطيت المعلومة طالبك بشيء من الرياء أو الغرور فلن يتقبلها عقله ولن يسعى لفهمها أو حتى تذكرها، وإن أُجبر على تقبلها مؤقتا اتقاء لبطشك المتمثل في امتحاناتك واختباراتك فلن يتقبلها منك ربك قبولًا حسنًا.

بمجرد انتهائه من خطبته، اشتعلت القاعة صياحًا وتصفيقًا من قبل الطلاب، أما الأغلبية من جالسي المنصة تجلى على وجوههم الامتعاض والحنق الشديد، ومن بين مئات الطلاب والطالبات المعجبات، رغبت إحداهن في نشر هذا الفيديو الذي قامت بتصويره لتلك الكلمة الحماسية، ففتحت حسابها الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي، فوجدت أنه الحساب السري ما زال مفعلًا، فلقد نسيت الخروج منه ليلة أمس، فحمدت الله كثيرًا لعدم تصفح أحد لهاتفها، وكادت أن تغادر هذا الحساب السري إلا أنها رأت منشورًا يتمثل في صورة للمسجد النبوي رسم عليها عبارة بحروف تكاد أن تنير، (سلام الله عليك يا حبيبي يا رسول الله)، فأحست بقشعريرة تنتاب جسدها مما زاد من نبضات قلبها، وأسرع معدل تنفسها، فتمتمت بحروف مهموسة دون أن تحرك شفتيها، واغرورقت عينيها بالدموع، فكيف لا تنسكب دموعها لقراءة اسم حبيبها المشتاقة إليه، المحرومة من جهر محبته، فكتبت تعليقًا وهي ما بين الوجيف والرجيف:

(عليه الصلاة وأفضل السلام. أشتاق إليك يا حبيبي يا رسول الله فما أحببت ولن أحب مثلك قط).

ثم نوت مغادرة الحساب، فلم يمهلها الزمن ولا القدر ولا الحظ ولا النصيب لتغلقه، فتعكس الرياح شراع سفنها، وإذ بالبلوى، ويا لها من بلوى، انتزع هاتفها من بين يديها بقسوة، وجاء صوت زميلتها المرتفع بطبعه:

  • رواية، رسول الله؟! صلاة وسلام؟! ما هذا الذي تفعلينه؟!

فأصابها الذعر، كل الذعر، ولم تنبس ببنت شفة.