في أهم الغرف الفتاكة والأكثر خطورة وجسامة وجدية ورصانة على الإطلاق، حيث تُطبخ الأحداث وتشتوى كما ينبغي لها ولأهلها أن تكون، كانت شمس الغروب الذائبة تتسرب على مكتب من أجل المكاتب وأعظمها في البلاد، يقبع في ركن الغرفة، عسى أن تنعش الجو من سقعه المفرط، ولكأنها مرتعشة مهزوزة مرتجفة من بث أشعتها داخل هذه الغرفة دون استئذان الصَقَّار الأكبر، شيخ الصقارين، الأنيق ذي الهيبة، الذي يجلس يحتسي قهوته السادة وجسده باتجاه النافذة، ويقرأ بنهم في ورق تختبئ كلماته بين ملف داكن يحجب الرؤية عن ما بداخله، وإذ فجأة يدير نفسه بالكرسي المتحرك بنشاط في حركة مهفهفة رشيقة سريعة خفيفة كعادة جميع أعماله، ويمسك سماعة هاتفه الداخلي وينادي في سكون ولطف:

  • إحسان، احضر في الحال.

يغلق الخط وما أكملت الدقيقة دوراتها حتى دلف المعاون سريعًا قائلًا:

  • أمرك يا أفندم.

فقال في عجالة:      

– أبلغ الصَقّارين باجتماع هام بعد ساعة وأعطهم نسخًا من هذا الملف لدراستها.

– علم وينفذ سيادتك، أوامر أخرى؟

– قيادات الهياثم الكبرى؟

– متواجدون في مكاتبهم.

– أبلغهم بالاجتماع و …

سكت قليلًا ليدرك أمرًا ما، ثم عاود الحديث:

  • لا تبلغ الهياثم شيئًا، فعّل خطهم الجماعي.

فاستأذن إحسان منصرفًا، وفي خطى سريعة تجاوز الطرقة الطويلة، وما أن وصل مكتبه حتى نفذ ما أمر به، وفي دقيقة واحدة علت أجراس التواصل المباشر، فهيئت كل الهياثم بقياداتهم جميع جوارحهم للتلقي والإنصات للشيخ الكبير، فدقت الخطوط المنفردة فكانت الاستجابة بأقصى سرعة، فخرج الصوت الوقور منها مخاطبًا إياهم:

  • صباح الخير يا بهوات، أتمنى أن الجميع على ما يرام، لقد اطلعت على التقييمات النهائية عابرة المكان وكانت جيدة، أما ما فوق الزمان فلنا فيها آراء سنناقشها فيما بعد، وعلى كل حال أعلم أن خريف الصيف الماضي وربيعه كان من العصيب والعسير تجاوزهما بدون أخطاء، ولهذا أقدر مجهوداتكم، ولكن القادم ليس فيه مجال لخطأ، خطأ واحد. سيادة الهيثم البكر، يرجى حضورك لاجتماع بعد ساعة، ويرافقك قيادات الهياثم الكبرى.

وتوقف قليلًا. ساور الشك قلوبهم واجتاحت أذهانهم الريبة، فلن يحدثهم شيخ الصقارين بذاته ليبلغهم بنتيجة تقييم أو مجرد اجتماع عادي، فظل الجميع ينظرون لبعضهم البعض وآثار القلق تكسو الوجوه، وكل يترقب بحذر إلى أن استأنف حديثه:

  • عليكم جميعا بتكرير مبدئي لـ (خلق من خلق)، بالتوفيق، في انتظاركم.

وأنهى الاتصال بهدوء كالمعتاد، وهو يعلم علم اليقين أن مخاطبيه لن يعود لهم هدوء بعد كلماته هذه، فالمفاجأة والصدمة كانت أكبر مما يتخيلون، ران الصمت المطبق، حاول الجميع استيعاب الأمر، ولكن لا أحد يفهم أو يدرك من أين يبدأ، فبدأت المجموعات تخرج أمام مكاتبها موجهة نظرها لباب مكتب الهيثم البكر، القائد العام، والذي يقع في منتصف الممر، حيث صدق حدسهم بأنها ستفاجأ مثلهم، وبالفعل خرجت لهم وعلى وجهها آثار الصدمة لا تقل عنهم، فهزت بكتفيها وحاجبيها وضمت شفتاها مما يدل على تعجبها، وبإشارة من يدها فهمتها القيادات سريعًا، فتوجهوا لها.