يوم السفر الموعود وفي الساعة الحادية عشرة صباحًا هبطت طائرة مصر للطيران مطار إسطنبول الدولي، استقبل زوج إيمان الوفد الكنائسي، وبعد السلامات والتحيات، عرفت رواية أنهم سيمكثون اليوم في إسطنبول، وصباح الغد سيتوجهون لماردين، استقبلها مؤمن بحفاوة وترحيب وكأنها رئيسة الوفد لا مجرد مترجمة مثله، وهذا الاحتفاء والتكريم بالطبع نتيجة لتوصية إيمان لزوجها بالاهتمام بصديقتها وجارتها العزيزة، سألته عن هذه المدينة ماردين التي لا تعرف عنها الكثير لعلها تشبع فضولها النهم، فأخبرها أنه من الأفضل الصبر للغد حتى تكتشفها وتستنبط بواطنها بنفسها، أما اليوم فعليها الاستمتاع بالتجول والطواف في إسطنبول حيث ملتقى الشرق والغرب، بأكبر قدر لعلها فرصة لن تتاح لها ثانية، فأمنت على كلامه، أعلمها بأنه سيرافق الوفد في جولة قصيرة لبعض المعالم السياحية المسيحية، بينما هي تقوم بتجربة ذاتية لاكتشاف المدينة، لتستمع للغة الحية وتمارسها مع ذويها، ولعلها رحلة تثقل بحث تخرجها عن كيف أوجد نحاة اللغة التركية الحروف اللاتينية المناسبة للأصوات العربية في لغتهم عندما تحولت كتابة اللغة التركية (العثمانية) من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية للأسباب السياسية والثقافية المعروفة، فرحلت عنهم تتماشي في شوارع إسطنبول العريقة، ففي الأعوام الثلاث الماضية كانت تدرس وتقرأ عن حضاراتها وثقافتها وآدابها، أما اليوم فهي ترى بعينها أثر تلك الحضارات والثقافات، أخذت تجول ببصرها بين هذا المبني وذاك، وبين هذا التمثال والآخر، وأثناء سيرها طرأ على ذاكرتها شخصيتين أساسيتين في تاريخ تركيا هما القائد محمد الفاتح الذي فتح القسنطينة (إسطنبول الآن) عام 1453م، والذي كان بشر به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ومصطفى كمال أتاتورك مؤسس دولة تركيا العلمانية، ولكنها في هذه الحالة وفي هذا الوقت لا تريد أن تتذكر التاريخ بندمه وحسراته وكآبته، فهي تتطلع فقط للاستمتاع بالمدينة الأصيلة وبهوائها الرطب النقي، أكملت السير بخطوات متمهلة متأنية، فكل ما تراه في جانبي الطرقات يعلق ببصرها وذهنها، وبعد ساعات من التمشي والتمخط، وجدت نفسها بداخل حديقة السلطان أحمد، أشهر حدائق تركيا، فجلست على إحدى المقاعد حيث يكون متحف آيا صوفيا على يمينها والجامع الأزرق على شمالها، أما أمامها فكانت المسلة المصرية، فعجيبة إسطنبول هذه، فمن النادر والمستحيل السير فيها بدون أن تطرأ على الذاكرة أفراح وأتراح متناقضة كل التناقض، وبينما تلقي ببصرها على يمينها تارة حيث آيا صوفيا الذي يعد الثامن في قاموس عجائب العالم، وتارة على شمالها حيث أعجب مساجد التاريخ مسجد السلطان أحمد أو الجامع الأزرق، وإذ تطرق لمسمعها أم ثلاثينية جميلة الملامح طويلة القوام تجعل من شعرها الذهبي ذيل حصان، تلاعب ابنها وبنتها بجوار السياج الموضوع حول المسلة، وتحدثهم قائلة هيا يا مصطفى هيا يا كريمان، فتتذكر سريعًا كريمان خالص، نعم كريمان خالص هذا هو الاسم، أم الشكل والهيئة فهي ممثلة تركيا في مسابقة ملكة جمال العالم، ففي عام 1923م، عام سقوط الإمبراطورية العثمانية، عُقدت مسابقة اختيار ملكة جمال العالم، وكان من الفتيات المتسابقات فتاة تركية وهذه أول مرة في تاريخ المسلمين، وهذه الصبية الملكة هي كريمان خالص، بعد أن عرضت مفاتنها بلباسها الكاشف على المسرح في بلجيكا، قام رئيس لجنة التحكيم وقال ما نصه:

(أيها السادة، أعزائي أعضاء اللجنة، إن أوربا بأسرها تحتفل اليوم بانتصار المسيحية، لقد انتهى الإسلام الذي كان يسيطر منذ عام 1400م، فإن كريمان خالص ملكة جمال تركية تمثل أمامنا المرأة المسلمة، ها هي كريمان خالص حفيدة المرأة المسلمة المحافظة المتزمتة تخرج علينا اليوم بلباسنا وعادتنا، ولا بد لنا من الاعتراف أن هذه الفتاة هي تاج انتصارنا، ولهذا فعلينا تخليد اسم كريمان في بلادنا).

أفاقت من شرودها الحزين، وقد شعرت بضيق صدرها لتذكرها هذه الذكرى المؤلمة في تاريخ الأمة المسلمة، فأخرجت من حقيبتها قطعتي من الشوكلت التي تحتفظ دومًا بها، وإذ تقترب بها للأطفال تلاعبهم، فتستلطف الأم رواية ويتحاكيان، وبعد التعارف الودود:

  • هل تعلمين أن اسم ابنتك جميل جدًا.
  • شكرا لذوقك.
  • إنه نادر في بلادنا العربية وحتى في تركيا.
  • صحيح فهو في الأصل فارسي، ولكني سميتها تبركًا لكي تكون ملكة جمال العالم مثل كريمان خالص أول ملكة جمال تركية.
  • حقًا! أتمنى أن تكون أجمل بكثير، ولكنك بكل تأكيد تعلمين أن قصتها حزينة وموجعة لجميع مسلمي العالم.
  • حزينة للمسلمين؟! يا إلهي؟! وموجعة أيضًا؟!

ثم أردفت جادة بعد أن رسمت على وجهها علامات السخرية والتعجب:

  • أنا مسلمة ولست حزينة على ما حدث، فلماذا يبكي المسلمون دائمًا بعد وقوع الكارثة؟! إن كانوا حقًا ملتزمين ومحبين لإسلامهم فلماذا ضاعت منهم الخلافة إذن؟ انظري عزيزتي لهذا المبنى، هل تعلمين ما هو وما قصته؟
  • نعم، إنه من أعجب أماكن العالم، آيا صوفيا، الحكمة المقدسة، حيث كان أول بناء له عام 360م في عهد قسطنطين العظيم.
  • هذا المكان يبكي ويتحسر عليه الجميع، من عام 360 م لعام 1204م كان كاتدرائية أرثوذكسية شرقية، وبين عامي 1204 م و1453م أصبح كنيسة كاثوليكية على يد الخائن داندولو، ومن عام 1453 لـ 1953 م أصبح مسجدًا إسلاميًا، ومنذ عام 1935 م ليومنا هذا أصبح متحفًا على يد أتاتورك، الجميع يطالب باستعادته فلمن يذهب إذن؟! أيذهب لمن بناه، الأرثوذكس؟ أم لمن سرقه أثناء الحملة الصليبية الرابعة، الكاثوليك؟ أم للغالبية العظمى اليوم في تركيا، المسلمون؟ فخير ما فعله أتاتورك عندما جعله متحفًا، فمن لم يستطع أن يحافظ على ممتلكاته ويدافع عنها فلا يبكي على الأطلال، وكذلك عندما لم يستطع رجال المسلمين أن يحافظوا على دينهم وثقافتهم وستر عورتهم، لماذا يبكون ويتشنجون ويسترجلون عندما نكشف أجسادنا؟

بدأ مصطفى وكريمان يتململان ويبكيان، فقامت أمهما باصطحابهم والذهاب بعيدًا، تاركة خلفها رواية غارقة في عالم فلسفي لم تدرك معالمه بعد، فقررت الابتعاد قليلًا عن إسطنبول وصخبها، فخرجت من الحديقة وأشارت لتاكسي، ركبت، وأخبرت السائق بأن يذهب بها لمقهى الخيال، فكم قرأت وسمعت عنه وعن جماله الساحر لموقعه الفريد بالقرب من البحر الأسود ومضيق بسفور، ففي النهار هو مقهى راقٍ يقدم القهوة التركية المتميزة، أما في الليل فهو نادٍ ليلي، أقرب إلى كباريهات وملاهي شارع الهرم المصري، بل أضل سبيلًا، ما لفت انتباهها كثيرًا أن سواق التاكسي فضولي، يتحدث في أي شيء، بدون أي سبب أو داع، كزميله السائق المصري، وأيضًا تلتصق بلسانه كلمة حمار لكل من سار بجانبه، فكل السائقين على خطأ وهو الوحيد على ثواب كما يظن مثيله المصري أيضًا، فسألته:

  • هل أنت مصري؟

فأجاب بالنفي.

فسألت مرة أخرى:

هل لديك أي أقارب مصريين؟

فأجاب أيضًا بالنفي.

  • عجبًا أنت تشبه سائقي التاكسي المصريين.

فقال متسائلًا:

  • في الثرثرة والفضولية؟
  • الحمد لله أنك تعلم صفاتك جيدًا.

فقال وهو يضحك ملء شدقيه:

  • يا سيدتي هذه صفات سائقي التاكسي في كل أنحاء العالم، فإن لم نتحدث مع الركاب فسوف نصاب بالجنون.

فابتسمت، فقال لها مداعبًا:

  • عندما يصاب تاكسي الخاص بعطل ما، فلا أستقل أي تاكسي آخر خوفًا وتجنبًا لثرثرة السائقين.

فضحكت وضحك هو.

وبعد برهة قليلة من السكون أدار السائق الراديو فبدأ صوت موسيقى خافض ينبعث منه، مرت دقيقتين أو أكثر وبدأ يترامى لأذنها صوت عذب يغرد من حنجرة كلاسيكية، فهتفت في السائق سريعًا بأن يرفع مستوى الصوت، بعد أن نفذ ما أمر به قال هذه هي، فقاطعته قائلة:

  • إنها أوموت أكيورك.

فتبسم وقال:

  • من يعرف اللغة التركية ومن لا يعرفها حينما يسمعها لا بد أن يفتن بها.

فقالت بلهجة رقيقة حنونة:

  • دعني أسمعها في هوادة وسكون، فكم أحببت صوتها وكلاسيكيتها.

تستمع رواية لأوموت أكيورك، والسيارة تسير بها بجانب البحر، حيث ترى مليون وجه ووجه من البشر، وكأن جميع الأعراق والأجناس ذابت واختلطت في هذه المدينة وتجسدت في الجميع، تطلق العنان لخيالها الجامح فتسبح في فيضان الأحلام، بينما تستمع قصة في مصر لأصوات متعددة متناثرة صارخة مستنجدة، أصوات اعتادت سماعها من قبل، ولكنها الآن لا تقوى على تميزها، فالعصامة تلتف على عينها أكثر من خمسة عشر ساعة، فمنذ أن فاقت من غيبوبتها لا ترى شيء سوى السواد الحالك، لا تسمع شيء سوى صراخات مبعثرة مستغيثة، لا تشم شيء إلا رائحة كريهة ونتانة مقيتة وصنان شنيع ينتشر حولها بكثافة، ومرت ساعة أخرى حتى سمعت صوت باب حديد يفتح، وأصوات أقدام تقبل، فأحست بأحد يتقدم منها، ففك لها قيدها وحرر معصمها، ونزع عنها العصامة، ثم رأته يتقدم من شخص في الزاوية البعيدة من الغرفة ولكنها لا تستطيع تميزه، فأثر العصامة ما زال يجتاح عينها، فدنا منه وفعل به ما فعله سابقًا معها، ثم رمى بصينية أمامها على الأرض بها رغيفين من الخبز المتعفن، وغرفتين مياه فول مدمس، وكوب صفيح قذر به ماء أقذر تبدو أٌقرب للون الأصفر، ثم قال بصوت غليظ حاد وقد نظر إلى من تكور في الركن البعيد الهادئ:

  • هيا انهض لكي تتسمم معها.

ثم أغلق الباب وانصرف، نظرت حيثما نظر المُنصرف، فتذكرت على الفور آخر لحظاتها قبل أن تغيب عن الوعي، عندما كانت تسير هي وأنس وأحاطت بهم المركبات الشرطية، فقامت على الفور اتجاه الركن المقابل، وجدت من توقعته، دنت منه، أمسكت برأسه، نظرت في وجهه وعينه، فوجدت وجه شاحب ذابل، عينين محمرتين، يدين مرتعشتين، أما جسده فيشع حرارة من أثر السخونة، فأدركت أن حمى ما قد أصابته، فقامت مهرولة إلى الباب تدقه دقا بيديها الصغيرتين، وتصرخ طالبة الاستغاثة والنجدة ولكن ما من مجيب، فأيقنت أنه لا جدوى منهم، فهرولت إلى الدلو، وبحركة سريعة انتشلت كم قميصها الأيمن من موضعه، أغرقته بالماء، ووضعته على جبينه، واستمرت هكذا ساعات طوال حتى بدأت الشمس تنسحب من النافذة الحديدية المشرعة، ولكن الغروب في مقهى الخيال له وجه آخر، تحتسي رواية قهوتها، بينما تصوب بصيصها للشمس التي تجر أشعتها وتشد بريقها في غفلة، لتعلن للناس انتهاء سطوع نورها وزوال لمعان ضيائها، وإحلال الظلام الطامس، ونزول الاسوداد القاتم، على خلاف الصباح حيث تبث أشعتها بتلكؤ وسكون، وترسم ابتسامتها، وتطلق ضحكاتها في وجوه الناس العابسة، فتبعث فيهم الأمل وتغمرهم بالتيمن وتكسبهم بشر يعيشون على أمله، وهكذا فعل حبيبها حينما أتى لعالمها بهدوء، ورسم ابتسامته، فبعث فيها الحياة والبهجة، ثم تسلل لقلبها ببطء حتى استقر فيه وعاشت على خطى نوره، ثم في غفلة جفن رحل، ورحل معه الأمل والنور والحياة، ألقت نظرة على الجرائد الموضوعة أمامها على المنضدة، شد انتباهها صورة غلاف إحدى المجلات، فهذه صورة مألوفة لها، ابتسمت وتذكرت ذاك اليوم، عندما خرجت من المحاضرة، فوجدته ينتظر جالس على السلالم ويحاول أن يوشم وجهه بعلامات الغضب والحنق، ولكنه يفشل كعادته بمجرد رؤيتها، فاقتربت منه وبين ذراعيها كتبها وأوراقها الدراسية، فأشار لما بين ذارعيها وقال بسخرية متهكمًا:

  • هل تفهمين شيئًا في هذه الخزعبلات؟
  • هذه الخزعبلات هي حضارات وثقافات وآداب أمم.
  • تمام جدًا، ولماذا تأخرت اليوم يا أبلة؟
  • أولًا كلمة أبلة هذه كلمة تركية تعني الأخت الكبرى، وأيضًا كلمة تمام تركية الاستخدام، ولكن لن أناقشك لجهلك، ثانيًا هذه كانت محاضرة مطالعات ومقال، وكان موضوع اليوم شيق للغاية فهو عن سوق إسطنبول المسقوف.
  • هههههههه وهل مسقوف بخيام أم بأخشاب؟
  • لا هذا ولا ذاك يا متفلسف عصرك، هذا السوق يعد أهم وأقدم بورصة ذهبية في العالم، يرجع تاريخه لأكثر من 580 سنة منذ أن فتح السلطان محمد الفاتح قسطنطينية، به أكثر من 250 محلًا لصياغة الذهب فقط، ومئات المحلات من أجل بيع المجوهرات والحلي، والعشرات لبيع التحف والسجاد، إنه سوق عالمي متكامل.
  • جيد جدًا، هيا بنا نسرقه؟

فرجته بضربة طفيفة أعلى كتفه بيدها النحيلة ثم قالت:

  • يا لك من خفيف الظل، هل تعلم أن مياه الصرف الصحي الخاصة به يحرسها أكثر من 20 فرد أمن لأنها تباع في مزاد علني، ليست به قمامة، فكل محل يجمع قمامته ويحللها فيحصل على بقايا الذهب التي تعرف بغبار الذهب، ثم يعاد تصنيعها أو بيعها للمصانع، حيث تدخل في بعض أنواع كريمات البشرة وطلاء الأظافر، حيث العبوة الواحدة من هذه الكريمات والتي تزن 25 جرامًا تقارب من ثلاثة آلاف يورو.
  • يا أماه. ثلاثة آلاف يورو!
  • انظر لهذه الصور، يا لها من مجوهرات رائعة، لم ولن أرى في حياتي مثلها، لقد كلفنا اليوم بكتابة مقال أدبي عن هذا السوق العريق.
  • استقلي ورقة، سوف أتولى أنا الخيال الجامح بالعربية وعليك بالترجمة للتركية.
  • اتفقنا، ابدأ حتى أرى مواهبك أيها الأديب العظيم.
  • بسم الله الرحمن الرحيم.

فقاطتعه مستنكرة:

  • بسم الله؟! من الواضح أنك ترغب في فضحنا على الملأ.
  • نسيت، بسم الثالوث الأقدس.
  • إنه مقال وليس خطبة أو عظة، أكمل.
  • كان يا مكان، في يوم من الأزمان، سوف أذهب أنا وحبيبي لهذا السوق.
  • يا ربي صبرني على هذا الجهول، يا حبيبي، جملة كان يا مكان تحكي قصة في الماضي وليس في المستقبل، حتى العربية لا تفقه فيها شيء، لعنة الله على التعليم المجاني.

فضرب رأسها من الخلف بكف يده قائلًا:

  • لقد أخذ الله من قامتك وأكمل بها لسانك أيتها القزعة.

فتأخذه بالقلم في صدره فيضحك مستهزئًا ويكمل:

  • هيا ترجمي، سوف أذهب أنا وزوجي المستقبلي لهذا السوق المسقوف لاختيار جميع المجوهرات التي تعجبني، فيالها من فرحة ولحظة جميلة عندما أتخيل هذه المجوهرات ملكي وفي حوزتي، ثم يدنو بقربي زوجي الحبيب، وتعلو شفتيه ابتسامته الصفراء ليهمس في أذني بكل ود وحب (زوجتي العزيزة نحن هنا للمشاهدة والتفرُج لا أكثر)

فتكشر عن أنيابها وتقذف القلم في وجهه، فيضحك ويقول ساخرًا:

  • لو معي ثمن هذه المجوهرات لتخليت عنك منذ زمن.

ثم يتابع بطريقته الاستفزازية ولكنها محببة لنفسها:

  • هل أجد معك خمسة جنيهات لشراء سندويتش من الشبرواي؟

يخرجها من غفوتها ويطلعها من ذكرياتها المؤلمة المضحكة صوت النادلة وهي تبلغها بأن حان الآن موعد غلق المقهى لتنظيم النادي الليلي، فتعتذر وتحاسب، ثم تنطلق هائمة على وجهها، تتعجب تارة وتستنكر تارة، أهذه هي تركيا؟! أخذتها قدميها إلى شارع صغير متطرف، عدد المارين به ضئيل، ولكنه نظيف وجميل مثل شوارع إسطنبول الرئيسية، وفي آخره تسرب إلى أذنيها صوت منخفض ليست على يقين بمن هو صاحب الصوت، ولكن على الأرجح، متيقنة أن القارئ عربي اللسان، فاقتربت من مصدر الصوت، منزلًا قديمًا عتيقًا، تحيط به أشجار طويلة أنيقة، وزهور قصيرة بهيجة بديعة، ووضع أعلى الباب لافتة مكتوبة بالعربية والتركية (حضرة زيدان الصوفي)، أما الصوت فهو حقًا الشيخ ياسين التهامي كما خمنت، فهو يغني بصوته الودود الرائق المفضل لها:

(الحب داء. آه. نعم الحب داء والوصال دواء. آه. والقرب من بعد البُعاد شفاء. آه. والأنس بالأحباب أكبر لذة فيها لروح العاشقين غذاء).

انجذبت مع هذا الموال كثيرًا وانشدت أوصالها، لا تعلم العلة في ذلك، هل لصوت الشيخ الجميل، أم للكلمات الرقيقة، أم لأنه مس في قلبها جرح ما زال ينزف؟ فغاصت معه في الذكريات بأشجانها وآلامها، ولا شعوريًا وجدت نفسها جاثمة رابضة على صدرها، ترج رأسها إلى الأمام وتعود بها للخلف فتهز الباب هزًا، فأحست بحركة وراءه، فهمت بالوقوف سريعًا، ينفتح الباب ويظهر رجل متوسط القامة ممتلئ قليلًا وقد نصب عمامة خضراء على رأسه، فيبادر بسؤالها بالتركية:

  • أراقت لك هذه الأغنية العربية؟

فتجيب بالعربية:

  • أنا مصرية.

فيبتسم ويقول:

  • أهلًا بمصر وأهلها تفضلي يا بنيتي.

تتكَنس البيت، فتجد أناس تراصوا في حلقة دائرية شاسعة متباعدة ويطوحون برأسهم يمينًا وشمالًا، يهللون ويكبرون تارة بصوت رقيق وتارة أخرى بصوت أعلى، فأجلسها الرجل على مقعد من داخل الباب، وتربع أمامها على الأرض فسألها عن اسمها وتعرف بها، ثم قال:

  • أنا زيدان الصوفي، إمام الطريقة القادرية في تركيا، فلدينا في الإسلام …

فقاطعته بأدب:

  • أنا أعرف الإسلام جيدًا، وعلى علم بالصوفية، وأحترمها كثيرًا، ولكن لا أومن بكل هذه الطرق، وما تفعلونه من محافل ذكرية.
  • من أنت لتؤمني أو لا تؤمني، فإني أجد الصليب قد زين يدك.
  • لا تنشغل بمن أنا ولا بالصليب، أنا عابرة سبيل تسعى لمعرفة ربها، وتطوف في أرضه الرحبة لترى نوره ومحبته.

فتبسم وقال:

  • صدقتِ القول يا فتاة، سأهديك نصيحة ضعيها دائمًا نصب عينيك.

فقالت متلهفة وقد هيأت كل جوارحها للاستماع:

  • أرشدني يا إمام فإني في أمس الحاجة لعظة وموعظة لهدي طريقي.

فغرد بصوت وقور رصين:

  • اسبحي كثيرًا يا بنيتي، لا تكلي ولا تملي، ثم غوصي في الأعماق.

فأعادت مستفهمة:

  • في أي شيء أسبح وأغوص يا إمام؟

فترنم:

  • في بحر النور.

فقرأ على وجهها علامات الحيرة والالتباس فتابع:

  • إن نور الله كالبحر، كلما تعمقنا فيه نقى ذهننا، وتقوى قلبنا وتطهرت أرواحنا، فهو بحر بلا شطآن، فلتسبحن حتى تصبحن.

خرجت من عند الإمام وهي لا تسمع ولا ترى ولا تدرك غير تلك الكلمات الرنانة، وكأنها رقشت أمامها كأنوار زاهية، وبعد برهة من الوقت لا تعرفها طالت أم قصرت وجدت نفسها في بهو الفندق، فصعدت حجرتها، وتوضأت ثم صلت المغرب والعشاء، أم الظهر والعصر فقد تركعتهما خفية في زاوية في شارع هامشي بجوار مقهى الخيال، حتى لا أحد يلاحظ الصليب المرسوم على ظهر معصمها، وبعد الصلاة راحت في سبات عميق، عميق جدًا.