بدأت حالة أنس الصحية تتحسن قليلًا، مر يوم والثاني ولا أحد يفهم علة محبسهم، فلا أحد يدخل عليهم سوى ذاك الرجل بذاك الماعون الملعون مرتين في اليوم، فتقوم قصة بإطعام أنس، وعمل الكمادات، وفي اليوم الثالث وأثناء قيامها بواجبها اتجاه رفيق محبسها، فتح ذاك الرجل الباب وأمرهم بلغته الفظة الجافة إتباعه، فأسندت قصة يد أنس على كتفها وصعدت به من الأرضية، ثم مشيا خلف ذاك الرجل، ففتح باب الزنزانة المجاورة فدخلا معًا وأوصد الباب، تطلعت فبصرت منهم النائم ومنهم المتكوم، وقد تكدسوا على بعضهم البعض، تظهر عليهم جميعا آثار جروح وحروق وكدمات ودماء تلطخ ثيابهم الممزقة وتدنس أجسادهم المخمشة، فعلمت قصة للتو أصحاب تلك الأصوات التي كانت تصرخ طوال الليل والنهار، إذن لقد اجتلبوا الجميع، نهض أحدهم وهو متخدش وسار في اتجاهها، فقال:

  • ما الذي أتى بهذه الخنزيرة لهنا؟

فقام آخر صارخًا:

  • أيتها الملعونة لسوف أرجمنك وأقطعك إربًا حينما ينفك أمري.

ودنا منها ثالث وصعد بيده لأعلى ليسقطها على خدها فأمسك أنس بمعصمه وصاح به:

  • ما الذي حدث لكم؟ أجننتم؟

فصرخ أحدهم:

  • كل هذا الذي حدث لنا بسببها.

وصخب الآخر:

  • لقد كانت تنقل لهم جميع أخبارنا، كما أبلغتهم بمخبئنا.

فوقعت هذه الكلمات على أنس كالصاعقة، أما قصة فأصابتها حالة ذهول تام، فلم تنبث بنت شفة.

فقال أنس:

  • من القائل بهذا؟

فقال أحدهم بلهجة منكسرة وقد ارتخت حنجرته:

  • الذي قال لنا هو من مزق ثيابنا، وهتك عرضنا، ودنس شرفنا.

مع هذه الكلمات، انجلى نحيب ونجم عويل، فنظر أنس للجالسين الباكين، فوجد الورود الأربع كما كان يلقبهم، فكان يقول دائمًا عند رؤيتهن (أنتم أيتهن الفتيات الرفيقات كأربعة ورود نمت في قلبي)، فتؤخذه رواية في كتفه بقوة وتقول: وأنا ماذا؟ فيقول:(أنت والدة الوردات جميعهن)، فتضحكن الفتيات ساخرات منها قائلين: (مقصده أنك كبرتي وذابلتي الآن)، ولكن في هذا اليوم، وفي تلك اللحظة ليسوا ورود كما اعتاد رؤيتهن، فالثياب مشروم والوجه مخدوش والشعر مبتور والجسد محروق واليد مسلوع والقدم مكلوم والأنف مخموش والفم مشجوج والعضو مكشوف، ففهم سريعًا ما انتابهن، وما هي إلا ثوانٍ معدودات حتى فتح حضرة الصول الباب، فسحب أنس من ذراعه ومعه قصة، وعاد بهم لزنزانتهم، وبهذا اتضح الهدف جليًا لكل من قصة وأنس من هذه الزيارة الخاطفة، فعلم الاثنين علم اليقين أن الفتنة قد توقدت واضرمت فيها الأعواد، والضلال الهالك قادم بلا محالة، وليس كقدوم الزمالك، فلقد حدث الهرج ووقعت الهوشة، عنصري أي عتْه مصري، وإن كان الجاني مجهول، ولكن عليهم التروي والتقصي والتفكير والتخطيط الجيد للقادم فهو أخطر وأسوأ وأهلك مما يظن الجميع.