حل الليل، فذهب مؤمن ورواية في جولة ترفيهية مع وفد الكنيسة إلى Beyaz su وتعني بالعربية الماء الأبيض، وهذه المنطقة مجاورة للحدود السورية، حيث تبعد أقل من أربعين دقيقة بالسيارة، وتشتهر بهوائها اللطيف البارد مهما اشتدت حرارة الجو، أخذ الجميع يتبادل أطراف الحديث حول جمال المدينة وامتدادها عبر القرون المنصرمة، بينما كانت رواية تدندن بصوت مهموس كهدير الحمام على أنغام خرير المياه وحفيف الأشجار المتكاثفة حولها، تتماشى وفي يدها كوب معدني مليء بالشاي المغلي، ترتشف منه قطرات خاطفة من حين لآخر، تتسلل المرتفعات متأملة قمم الجبال وسفوح التلال، تستنشق منتثر الأزهار مستمتعة بشواطئ الأنهار وأمواج البحار، تمر والناس في هجعاتهم سكارى متطلعة للكهوف المتشابكة العجيبة المنتشرة بغرابة، لاحظت أثناء تجوالها صبية نشطة يبدو أنها لم تتجاوز العشرين بعد، شعثاء، مهللة الملبس، يتضح من هيئتها فقرها وعوزها الشديد، ولكن أهم ما لفت نظرها هو أن الفتاة أثناء حراكها بين العوام تنشد قصيدة أحن لخبز أمي للشاعر الفلسطيني، حبيب القلوب وملهم العموم، محمود درويش، فلا إراديًا جذبت القصيدة كامل وعيها واحتلت أعماق قلبها، فرنت منها، فلجمت الفتاة لسانها وانفرجت أساريها صانعة بسمة طفولية عذبة، والتقطت قطعة صابون طبيعي مما تحمله في حقيبتها للبيع، فتلقتها رواية من يدها ثم أنشدت في صوت حنون:

أحن إلى خبز أمي.

فاتسعت ابتسامة الفتاة، ثم غنتا معًا بصوت مشترك رقيق يخالطه الحنين:

أحنّ إلى خبز أمي
و قهوة أمي
و لمسة أمي
وتكبر في الطفولة
يومًا على صدر يوم
وأعشق عمري لأني
إذا متّ،
أخجل من دمع أمي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بادرت عين رواية بالدمع، فسارعت يد الفتاة لمسحها، فلثمت رواية كفها التي لامس خدها بلطف وحنان ثم قالت بصوت متذبذب رقيق:

  • ما اسمك؟

فأجابت الفتاة:

  • ألماسة.
  • ماذا تفعلين هنا؟
  • أسعى بحثًا عن رزقي.
  • وأين عائلتك، لهجتك عربية قريبة من المغرب العربي؟
  • أنا من أب أمازيغي عربي قتل، وأم أفريقية قتلت هي أيضًا، نحرت عائلتي بأسرها، ما عداي، في مذبحة طائفية.
  • كيف ولماذا قتلت عائلتك؟
  • أبي مسلم إباضي منذ القدم، بالتوارث، زحف الجد الأكبر منذ مئات السنين من ميزاب، عاصمة الإباضية في الجزائر، إلى أن استقر به الأمر فعقل ناقته في موطننا الحالي، عاش وامتد نسله، وأنا آخره.

دائمًا ما يؤم أبي الصلاة حال غياب إمام المسجد السني، وفي أحد الأيام تغيب السني عن صلاة العشاء، فتقدم أبي للإمامة كالعادة، دخل في الصلاة، وفي منتصفها قطع عليه اثنان من الفتية، فأنحياه، وجراه، وسرحاه للخارج في وسط ذهول الناس من هذا الفعل الشنيع والذريع، برر الشبان فعلتهم مما صدر مؤخرًا عن بعض مشايخ الوهابية السعودية والسلفية المصرية بتحريم الصلاة خلف الإباضيين باعتبارهم كفار شرك لا كفار نعمة فقط، أخذ أبي يشرح لهم تحول مسار الإباضية من الخوارج لمسار مستقل معتدل، إلا أنهم أبوا الاقتناع إلا بما سمعوه من السلفية وتعلموه عن الوهابية التي تكفر الإباضية كفرًا واضحًا وصريحًا دون أن يفقهوا أو يفهموا حقيقة الأمر، بعد أن سحل أبي في الشوارع وجزر في الأزقة، إذ بهم يجمعون عصبة من الشباب المغيب أمثالهم ويعتدون على عائلتي، مفتين بوجوب قتلنا ومحقنا من الجزيرة، لأننا الأسرة الوحيدة الإباضية، معللين خوفهم وتوجسهم من أن نكون سبب فتنة، ولكني استطعت الهرب منهم.

  • في أي جزيرة كنتِ تقيمين؟
  • لامو.
  • لامو!
  • نعم لامو، ولكن كيف لك أن تعرفي لامو التي نسيها المسلمون وحتى العرب، إنها إحدى مدن كينينا.
  • كينيا! أعرفها لحد ما، فلغتها الرسمية اللغة السواحلية، ولقد درستها في كليتي كلغة ثانية ثانوية.
  • حقًا؟! إنه لرائع أنك تعرفين اللغة السواحلية، فنادرًا من يهتم بها في هذه الأزمنة.
  • ولكن ماذا يعني مسلم إباضي، وما الفرق بينها وبين السلفية؟
  • الإباضية فرقة ومذهب كجميع الفرق الإسلامية التي انشغل جميع المسلمين بالتناحر حولها والتحارب من أجلها ونسوا الدين الحقيقي والرسالة السامية.
  • هذا حقيقي، ولكن ليس هذا موضوعنا الآن، أنت تبيعين الصابون؟
  • نعم أبيع الصابون الطبيعي، إنه مفيد وصحي.
  • هل لي بواحدة من دهن الفستق؟
  • نعم، تفضلي، سيدتي.

سددت رواية ثمن الصابونة ومعه بقشيش كبير، فقيمة البقشيش تتطابق دائمًا مع حجم راحة المشتري للبائع، ثم انصرفت في طريقها لمجلس الوفد، وفي مسار العودة وبينما هي بجانب مؤمن في الأتوبيس السياحي سألته بفضول:

  • قد علمت من إيمان أنك أزهري، فهل لي أن أعرف ما هي الفرقة والمذهب الإباضي؟
  • عليك أولًا التفريق بين الفرقة والمذهب، فالفرقة هي جماعة تربطهم معتقدات ما، في الغالب، تعزلهم عن غيرهم، فينشئون مجتمعًا خاصًا قد يكون منغلقًا عليهم، وقد يسع غيرهم، أما المذهب فهو مجموعة من الآراء والروابط الفكرية والمبادئ المتصلة والمنسقة لمفكر أو لمدرسة فكرية ما، مثل المذاهب الفلسفية والأدبية والفقهية وغيرها، الفرقة تدل على الاختلاف في الأصول، أما المذهب فيدل على الحيوية والتجديد والنشاط الفكري داخل الفرقة الواحدة، كما أن الفرقة خلاف الجمع، أم المذهب فهو الاجتهاد فيما لا نص فيه، فالأول مذموم والثاني محمود.
  • لأي باعث أو دافع نشأت المذاهب والفرق الإسلامية؟
  • تبددت الأمة الإسلامية في البدء لثلاث فرق سياسية هم؛ الخوارج والشيعة والمرجئة، أما فكريًا فالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، هل تعرفين التنكس الإسلامي الأبدي؟

وجد آثار البلادة على وجهها فأردف:

  • سأسرد عليك الأمر بالمختصر المفيد والتبسيط المريح، أولًا، وقبل كل شيء، القاعدة العامة الشيعة هم نقيض الخوارج، وما بينهما المرجئة. غلاة الشيعة تمسكوا بالباطن فانحرفوا، وغلاة الخوارج تمسكوا بالظاهر فاعوجوا، وغالبية المرجئة اتبعت طغاة بني أمية وملوك بني العباس، فعلى هوى الخليفة فتوا، وعلى رغبته قضوا.

نظر إليها فرأى ما زالت آثار البلادة على وجهها فتابع:

  • القصة باختصار دون إفراط أو تفريط، بعد وفاة سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم تولى الخلافة سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه واجتمعت عليه الأمة، ومن بعده تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه واجتمعت عليه الأمة، ومن بعده تولى سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه واجتمعت عليه الأمة، وكل ما حدث في توليتهم ومبايعتهم معلوم، وإن شائبها شيء يسير من الخلاف، وكل الأسانيد التي أرخت لغير ذلك، بعلم التجريح والتعديل، ثبت ضعفها ووضعها.

بداية النكسة الإسلامية كانت بالانقلاب الدموي الأول الذي وقع في أواخر عهد سيدنا عثمان بن عفان، حيث رأى البعض من المسلمين، وخاصة من أهل الكوفة والبصرة ومصر، أن عثمان يتهاون مع بعض الولاة من قومه، وحسب زعمهم، أنه تركهم يظلمون الناس ويسعون في الأرض فسادًا، فخرجوا عن مبايعته، وعقدوا أمرهم على أن يقتلوه، ليس كرهًا في عثمان وهو من صحابة رسول الله، وإنما لمنع هؤلاء الولاة أقرابه من الظلم، وهكذا أقنعوا أنفسهم بقتله.

قاطعته رواية بحماس:

  • عذرًا للمقاطعة، فكل ما قلته يعرفه العامة ولكن لا أحد يفهم كيف قتل خليفتكم عثمان؟ كيف استطاعوا أن يحشدوا الناس ضده وهو خليفة الله وصاحب رسوله؟ أين كان الصحابة؟ وما موقفهم من هذا الأمر؟ كيف المنافقون القلة استطاعوا أن يهزموا المسلمين الأغلبية؟ كيف لابن سبأ، رأس المنافقين كما تزعمون، أن يدبر كل هذه الأمور التي أدت لمقتل الخليفة؟

التفت إليها مؤمن وكانوا على مقربة من الفندق حيث يقيمون:

  • الحديث ذو شجون وستطول تفاصيله، ولقد وصلنا النزل، فليصعد الوفد، ثم نذهب معًا في جولة ليلية متميزة لهذا التراث العريق، وسأسرد عليك ما أعلمه من الأمر.

بعد أن اطمئنوا على تسكين الوفد في مبيته وراحته، أخذ مؤمن رواية ليتجولوا في المدينة القديمة، فسحر أنوارها لقبها بعقد الألماس، وفي اتجاههم للمدينة تابع حديثه المتوقف:

  • في حقيقة الأمر يا رواية أن الصحابة لم ينصروا سيدنا عثمان حق نصرته، وإنما الغالبية خذلته، والأرجح أن معظمهم ألب عليه، ولكن لم يكن في تخيلهم أن الأمر سيصل لسفك الدماء، فلم يكن الانقلاب والهيجان بين عيشة وضحاها، وليس لابن سبأ ولا لألف مثله القدرة على اللعب بعقول صحابة رسول الله، كبار الأمة وعلمائها وفقهها، ابن سبأ هذا أخذ في كتب التاريخ والروايات أكثر بكثير من حقه، وإن كان لعب دورًا لا يتعدى دور الحقد والخسة والدناءة، فهو ممن يقال فيهم “بيزيط في الزيطة”، لكي تفهمين طبيعة الأمور، علينا بقراءة فاحصة للبيئة الإسلامية الموحدة في تلك الفترة، والتي لم توحد ثانيةً بعد النكسة الكبرى، مات عمر وهو من هو، بسياساته وأحكامه وآراءه، وأتى عثمان وهو من هو، بسياساته وأحكامه وآرائه، كلاهما خليفة، كلاهما صنع شعبه وزمانه وقوانينه، عمر أمسك على الرعية بأسرها، طبق العدل برمته، فأخفى العصبية وأراح الجميع، عثمان أنفق على الرعية بأسرها، وأحب قربته ووصل رحمه فيما لا يوصل، فولاهم الأمصار وأغدق الأموال عليهم وعلى غيرهم، فتغيرت النفوس، نفوس الشعب، صحابة وأتباع، فأحبوا الترف واعتادوا عليه، وتمادوا معه ومع مجريات المال، بعد أن حرمهم ابن الخطاب.

اقتربوا في تلك الأثناء من واجهتهم الأولى حيث مطرح صياغة الذهب اليدوية وترصيعها وأثناء صعودهم في اتجاه المكان الكائن أعلى الجبل قالت رواية بأسف:

  • حقيقي، فأصحاب النفوس الضعيفة الشبع بعد الجوع يتلف نفوسهم ويغير فكرهم ويخرب عقلهم ويمرض قلبهم، بالأمس القريب، كانوا يسكنون البادية ويرتحلون بخيامهم، اليوم، ما بعد النفط، منهم من يتقلبون علينا نحن المصريون وغيرنا من أصحاب الحضارات، محاولين جهدنا وقتلنا وسحقنا وابتياع معالمنا الحضارية والمدنية، بمالهم يدسون لنا السموم الفكرية والتاريخية، بنقودهم يتحكمون حكامنا، بدنانيرهم يشترون علماءنا، بدراهمهم يرشون إعلامنا، بعملاتهم يغرون شعوبنا، فلا روائي يستطيع مهاجمتهم، فكيف سيحصل على الجائزة الأدبية؟! لا صحفي يكتب حقيقة أخبارهم، ماذا يفعل لو تملكوا جريدته بأكملها؟! لا إعلامي قادر على كشف ألاعيبهم، أليسوا بمالهم قادرين على شراء منبره وصاحبه؟!

استمع مؤمن لها بأسف لحقيقة وصدقية قولها، ثم قال وقد وصلوا مقصدهم:

  • جئنا لكي أبتاع لجارتك هدية لعلها تنقذني من غضبة بعادي عنها

من بين القطع المتميزة والمصوغة باحترافية ومهنية اصطفى قرط مميز للغاية منحوت على هيئة صقر صغير، استغرقوا ما يقرب من عشرين دقيقة يشاهدون بعناية كيف يشكل الصياغ سبائك الذهب الخام بطريقته الاحترافية والبديعة دون أن تخطئ أنامله، بشعور رواية الملل قادها لمقهى ومطعم عتيق وسط المدينة من جهة الشرق، وفي طريقهم استأنف مؤمن:

  • أين وصلنا في حديثنا؟
  • رعية عمر غير رعية عثمان.

فأتبع سرده:

  • لقد أخذ على سيدنا عثمان العديد من المآخذ، بعضها سياسي، ومنها ما هو اقتصادي، وكلاهما أثر بشكل غير مباشر على الوضع الاجتماعي، فالطبيعة الاجتماعية لعصر عثمان كانت مشجعة لما حدث، حرر عثمان أبناء قريش الذين أمسك عمر عليهم فألزمهم المدينة، دارًا ووطنًا وحياةً، فلا يبرحها أحد إلا بإذنه شخصيًا، خوفًا منهم وعليهم الفتنة والإغراء، فهو يعرف القرشيين حق المعرفة ما أن يطرقوا طريقًا إلا أتوا بأخره، لما كانوا يعتقدونه من تفضيلهم على غيرهم في الجاهلية وفي الإسلام، ومن الأدلة المشهورة عزل عمر لخالد بن الوليد، حتى لا يقال إن النصر بيد خالد لا بيد الله، ومما ساعد أبناء قريش على الاتساع في البسيطة أيام عثمان ما وهبهم من المال الوفير والأعطيات المدرارة، فأصبحت لهم الدور والجنان والخيل والفرسان والأتباع، ففتن بهم الناس وفتنوهم، ومع مرور الأعوام القليلة، تجلت رؤية وحكمة الفاروق، فأصبح ما كان يخشاه حقيقة بينة للعوام.
  • وما هي الأسباب السياسية والاقتصادية؟
  • فيما يتعلق بالشأن السياسي الديني، عدم القصاص من عبيد الله بن عمر بن الخطاب الذي قتل بنت أبي لؤلوة، وهرمزان المسلم، وجفينة المسيحي، وهم شركاء أبي لؤلوة بالتآمر والتحريض في طعن عمر بن الخطاب، فلما تولى عثمان الخلافة كان لكبار الصحابة رأيان، أحدهما يستنكر، أيقتل الأمير بالأمس ويعدم ابنه اليوم؟! أما الآخر، قتل فيُقتل، لقد أزهق ذميين ومسلمًا بدون وجه حق، فلا صلاحية ولا تخويل له، أما عثمان فأمسك بأمر وسطي، وهو بصفته كخليفة المسلمين يعد ولي القاتل والمقتول، فليعفي بصفة ولي المقتول، ويدفع الدية بصفة ولي القاتل، والدية من ماله الشخصي لبيت مال المسلمين، وانتهى الأمر وفي كل نفس ما لها، ومن السياسي أيضًا، أبقى عثمان عامه الأول من الخلافة على أولياء عمر المعينين من قبله، ثم بعد ذلك غير في منظومة عمر التكنوقراطية الحكيمة، فأبدل الأكفاء بالأقرباء، فتمكنوا من مفاصل الدولة وولايات الخلافة، مثل تولية عبد الله بن أبي السرح لمصر، وهو أخوه من الرضاعة، وقد كان كذابا يكذب بلسان الرسول، فأمر الرسول بقتله، لولا أن عثمان تشفع فيه فلبى له الرسول مطلبه، وتنصيب الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخيه لأمه، على الكوفة، وهو من نزل فيه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسقٌ بنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصيبُوا قَوْمًا بجَهَالَةٍ فَتُصْبحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادمينَ.

ومن المآخذ أيضًا، استقدام الحكم بن أمية، عم عثمان، للمدينة، بعد أن طرده الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، ورفض أبو بكر وعمر عودته في خلافتهم، لأنه كان يسخر ويتهكم من النبي، حيث كان يختلج مقلدًا النبي في مشيته، كما كان يتجسس عليه في بيته وهو مع زوجاته، فلعنه النبي ونفاه، أما نفي سيدنا أبي ذر الغفاري، صاحب رسول الله، من المدينة، كان له الأثر الأقوى في نفوس المسلمين، حيث كان ينادي بإلزام الخليفة بجمع كل ما هو فائض عن حاجة الناس، ثم يقسمه على فقراء المسلمين، لأن الغفاري كان مؤمنًا بمبدأ التكافل الاجتماعي، حتى لقب في العصور الحديثة بأنه أول اشتراكي في التاريخ، أو الصحابي الشيوعي، غير أن واقعة ضرب عمار بن ياسر في اليوم الشهير لم تقل أهمية وجدلًا في أوساط الصحابة والمسلمين عامة.

انتهى بهم المطاف داخل مقر المطعم التراثي حيث فرقة مارديني الشعبية ما زالت تنوح بمواليها، فتوجه بها للجزء الأخير حيث الركن الصخري الذي يقبع عاليا، فجلسوا على مقاعد تراثية بدائية تفوح بروح الأصالة، فأخذ مؤمن ورواية يتطلعون لقائمة المأكولات المنحوتة على الحائط الحجري بجانبهم، وبعد برهة قليلة، حيث لم تفهم رواية أي من المأكولات غير الكباب خاطبت مؤمن:

  • ماذا يأكل من هو مثلي الذي لا يعرف أي من هذه الأصناف غير الكباب؟
  • أشهر الأطعمة هنا في ماردين هو الكباب، ولكن الأفضل منه على الإطلاق في هذا المطعم وفي ماردين بأسرها هو دولمة كابورجا والذي يعني محشي الأضلاع فليس له مثيل، فهو حشو لحم الخروف بأرز حيث يستغرق تسويته ثماني ساعات على البخار.

عقب تكليف النادل بقائمة احتياجاتهم من الطعام، سألت رواية على أنغام الناي التركي المنبعث حولهم:

  • ما هي الأسباب المباشرة أو الحجج الواضحة التي أعلنها المتمردين على الخليفة بن عفان؟
  • الأسباب المباشرة التي أدت لمحاصرة دار سيدنا عثمان للانقلاب على الخليفة؛ تسليم عثمان ختم الخلافة لمروان بن الحكم بن أمية، زوج ابنته، وما ترتب عليه أنه في أحد الأيام قدم وفد من مصر يشتكي لسيدنا عثمان ظلم واليهم، فكتب إليهم عثمان بعزله، وهم في طريقهم لمصر ومعهم خطاب العزل، لحقهم بريد الخلافة ومعه كتاب آخر عليه ختم الخلافة مكتوب فيه أمر للوالي بقتل الوفد الذي اشتكاه للخليفة، فعاد الوفد المصري لسيدنا عثمان ليناقشه في الأمر فقال رضي الله عنه، والله ما رأيت ولا علمت بهذا، وكان مروان بن الحكم هو الذي زوره ظلمًا وبهتانًا على الخليفة، ولكن تفاقمت الأمور فخطط المصريون مع البصريين والكوفيين، وأطرقوا أول معول في هدم الخلافة الراشدة، وأقاموا بأول انقلاب في الإسلام، ومن خلال كل المآخذ السابقة التي ذكرتها لك والتي أخذت على سيدنا عثمان انتشرت الدعوة ضده، ومع ذهاب معظم الصحابة وأهل المدينة للحج في عام 35هـ، تجمهر هؤلاء الانقلابيون أمام بيت الخليفة فحصروه أشد الحصار، فمنعوا عنه الطعام والشراب، كما منعوه للخروج للصلاة، وخيروه بين أمرين لا ثالث لهما، إما أن يسلم مروان بن الحكم ليقتلوه، وإما أن يعزل نفسه، فرفض كلاهما، فظل محاصرًا هكذا حتى يوم الجمعة الموافق 18من ذي الحجة لعام 35هـ، إذ دخل عليه ثلاثة عشر رجل وكان صائمًا جالسًا وبين يديه المصحف الشريف، فكما يقول المؤرخون أنهم شقوا رأسه، وشدوا لحيته، وكسروا أضلاعه، وبقروا بطنه، وقطعوا حلقه، وقتلوه شر قتلة، وبعد كل هذا رفضوا أن يدفنوه في مقابر المسلمين، وكانت البقيع آنذاك، وهي مدفن المسلمين بالمدينة، محاطة بجدار، فبعد توسط الكثير من الصحابة فيما بعد تم دفنه خارج السور، كانوا يرونه كافرًا فلا يسمح بدفنه في مقابر المسلمين.
  • وأين الصحابة من هذا؟
  • غالبية الصحابة، وإن على اختلاف معه في سياسته، إلا أنهم كانوا بالحج أو في المدن المفتوحة حديثًا، حيث يرشدون ويعلمون المسلمون الجدد، من ثبت وجودهم في المدينة آنذاك علي بن أبي طالب وابناه الحسن والحسين، ومحمد بن طلحة، وعبد الله بن الزبير، ودافعوا عنه أشد الدفاع ولكنهم لم يتمكنوا من صدهم، فالمنقلبين كثر، قدروا بالآلاف، استطاعوا أن يحشدوا الكثير من أهل الأمصار مما جعلهم يتفوقون عددًا على أهل المدينة، أما معاوية فلم يكن قد وصل بعد للمدينة.
  • لا أستطيع استيعاب هذا، ولكن ماذا جرى بعد مقتل الخليفة؟
  • عاشت المدينة حالة من الفوضى والهلع بعد الهرج والشغب الذي اجتاحها والذي أدخلنا في نفق مظلم أبدي، أراد المصريون مبايعة علي بن أبي طالب، وأراد الكوفيون مبايعة الزبير، وأراد البصريون مبايعة طلحة، وعرضت على سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، وكلهم رفضوا، رضي الله عنهم جميعًا، فالوضع السياسي والميداني كان مقلق للغاية، فالخوف من المجهول تملك العقول والقلوب، وفي نهاية الأمر اجتمعت الأغلبية على علي فأجبروه عليها، فتشجع سيدنا علي ووافق على مضض حتى ينقذ الأمة، فلا بد من قائد يقودها، فبويع في يوم 24 من ذي الحجة.
  • الآن الأمور جيدة، لقد أصبح للمسلمين قائد وبايعه الناس فمن أين جاءت الفتنة والحروب؟
  • الذين بايعوا عليًا هم الانقلابيون فقط الذين حرضوا وقتلوا سيدنا عثمان، ولهذا عندما طالبه معاوية بن أبي سفيان بأن يسلمه قتلة عثمان لأنه ولي دمه، طالبه علي بأن يبايعه الأول على الخلافة، ومن ثم يسلمه القتلة، فرفض معاوية المبايعة وتاجر بدم عثمان في أهل الشام الذين يمتلك ولائهم التام، فأزاد الفتنة فتنًا، حيث صدرت الفوضى من المدينة لتعم بلاد المسلمين بأسرها.

تملك العجب رواية من الأحداث المرتبكة وقالت:

  • ولماذا يرفض علي تسليم قتلة عثمان؟
  • رفض سيدنا علي تسليمهم لأنهم في ذاك الوقت هم الحاشية والقوة النافذة والأغلبية المسلحة التي لن يقوى أهل المدينة على الوقوف أمامها، كما أنه لا يستطيع أن يحددهم بالضبط نفرًا نفرًا، فكان الإمام علي يرغب في محالفة معاوية حتى يتكون لهم جيش ودولة تمكنهم من التصدي للمنقلبين ومحاسبتهم والعودة لمسك زمام الأمور.
  • ومن ثم ماذا حدث نتيجة تمسك كل برأيه؟
  • أدى هذا التناحر بين علي ومعاوية إلى معركتي الجمل وصفين، اللتين قتل فيهما الكثير من الصحابة والتابعين فحفرت لهم القبور الجماعية، أصحاب الأولى اقتنعوا بخطائهم في الخروج مما أدى لسفك الدماء، فعادوا لمواطنهم، أما أصحاب الثانية، صفين، قوات معاوية لما أدركوا الهزيمة المؤكدة رفعوا المصاحف للتحكيم فيما بينهما، وكان علي قد اقترحها مسبقًا ولكن معاوية وصحبته رفضوا. وافق بعض أنصار علي بالتحكيم لتفاقم الأزمة، أما علي فلم يرغب بها، وإنما خضع لقرار الأغلبية، فقرروا التحكيم لكتاب الله، اختارت جماعة معاوية عمرو بن العاص، واختارت جماعة علي، المؤيدين للتحكيم، أبو موسى الأشعري، فأبرم الأشعري وابن العاص أن كلاهما يخلع صاحبه، فقام أبو موسي الأشعري فخلع علي، وقام عمرو بن العاص فثبت صاحبه معاوية، غدرًا وخيانًة وخداعًا، فرفض فريق من جماعة علي الحكم لأن عمرو وفريقه نكثوا، فخرجوا على علي وجماعته القابلة للتحكيم، هذه الجماعة لقبوا أنفسهم الشراة، أي الذين باعوا أنفسهم لله، وسموا أيضًا المُحكمة لقولهم لا حكم إلا لله، لا لابن العاص ولا لابن الأشعري، ومن هنا ظهرت الشيعة والخوارج، ففي كلا الفريقين من تلوث بدم عثمان.

إذن انقسمت جماعة علي، ففريق ناصر سيدنا علي وأكملوا معه، وهم الشيعة، وفريق خرج على سيدنا علي وحاربوه، وهم الخوارج، فر الخوارج إلى قرية حروراء وجعلوها مقرًا، وكفروا علي وعمرو ومعاوية، وأرادوا قتلهم، فترصد لهم ثلاثة منهم، لم يصب إلا عبدالرحمن بن الملجم سيدنا علي وهو في طريقه لصلاة الفجر، فقتله، ثم بيع بعده، الحسن بن علي، فوجد الأمور غير مستقرة، وكان شخصًا مسالمًا، فتنازل لمعاوية حقنًا للدماء، وكان هذا عام 40 للهجرة، ولهذا سمي بعام الجماعة.

         حضر طاجن محشي الأضلاع برائحته النفاذة للمائدة الصخرية وقد خطف عقل وقلب المعدة من منظره الشهي، ولكن هذا لم يحجم فضول رواية التي تابعت أسئلتها:

  • هذا يعني أن المُنقلبين انقسموا لفئتين سياسيتين، فئة خرجت على علي وفئة ناصرته، غير الفئة الثالثة التي كانت تتبع معاوية؟
  • هذا صحيح، كلا الفريقين الخارج والمشيع كانوا سياسيين، ولكن لأن السياسة مفلسة في المجتمعات المتدينة، فهي بلا أنصار، وهذا يجعلها بلا مذاق، فلابد إذا أرادت النصرة عليها بالتوابل الدينية، وأفضلها الأكثر غرابة التي تكسبها حلاوة ومظهرًا براقًا يجذب إليها متطرفي الفكر، والذي يمكنها من احتلال عقولهم التي هي الطريق الأقصر لتولي المناصب واحتلال الكراسي، فبعد مقتل الإمام علي استمرت فرقة الخوارج بمبادئها وآرائها وفرقها التي تفرعت عنها، وبدأت تتبلور الشيعة وفرقها كذلك.
  • ومن هم المرجئة إذن؟

أمسك مؤمن بالضلع ليقطم بلذة وشهية قبل أن يجيبها واللحم يملأ فمه:

  • المرجئة هم الذين أرجوا أمر هؤلاء وهؤلاء للآخرة، فلا يتحيزون لفئة دون فئة ولا يوقعون حكم على عثمان ولا علي ولا معاوية ولا الحسن ولا الحسين، وإنما أرجوا أمرهم جميعًا لله تعالى، ويترضون عنهم جميعًا، وقد أطلق عليهم الأمويون في عصرهم أهل السنة، وأطلق عليهم العباسيون في عصرهم أهل الجماعة، ومن ثم لقبوا بأهل السنة والجماعة إلى اليوم، ويقال بأنهم من قالوا بجبرية الإنسان ردًا على القدرية التي ظهرت وقتها، كما أنهم أرجوا أمر مرتكب الكبيرة إلى الله تعالى، وبهذا خالفوا الشيعة والخوارج، إلا أن جمهور أهل السنة والجماعة في العصور القريبة يتبرون من وصف الإرجاء حتى لا يخلط بينهم وبين الإباحيين.
  • وما مصير الخوارج؟
  • الحقيقية التي أثبتها التاريخ أن الخوارج انقسموا لفرق متعددة، ولكن صنفهم المؤرخون الجدد لفريقين أساسين، كل فريق له أراءه وأحكامه وأتباعه، فريق الغلاة ويضم كل من (الأزارقة والصفرية والنجدات والعجاردة)، وهؤلاء كفروا جميع الصحابة وهدموا قواعد الدين والإنسانية وقضوا على الفطرة الحسنة السوية، حتى وصل بهم الأمر إلى أنهم ينصبون الحواجز في الطريق فإذا مر يهودي أو نصراني يتركونه ويحموه لأنه من أهل الكتاب، وقد أوصى عليه النبي، أما إذا مر مسلم على غير ملتهم قتلوه شر قتلة مثل عبد الله بن خباب، حسب زعمهم كل من ليس معهم فهو كافر وجب قتله، لأن معتقدهم بكل من أذنب ولو ذنبًا واحدًا فهو كافر ولا توبة له، كما ينصبون القدور ويملئونها بالزيت المغلي ويضعون فيها المسلمين من شيوخ وأطفال ونساء.

أما الفريق الآخر من الخوارج تمثله فرقة الإباضية، وهي أعدل الفرق وأقربها لمنهاج أهل السنة والجماعة، فهم لا يعدون مخالفيهم كفار عقيدة وإن عدوهم كفار نعمة، وتنسب لعبدالله ابن إباض التميمي وهو سياسي مشهور في عصره ولهذا سمي أتباعه وأصحابه باسمه، فكانت الإباضية تسمى، من قبله، أهل الاستقامة وأهل الدعوة إلى أن سميت بعد ذلك بالإباضية نسبة له، مؤسسها الحقيقي أبو الشعثاء، جابر بن زيد رضي الله عنه، تابعي تقي نقي وارع عالم زاهد متواضع عفيف طاهر، أثنى عليه ابن عباس وعبدالله بن عمر وعمر بن عبدالعزيز والسيوطي وابن حجر وابن تيمية وغيرهم من الأئمة، ولقد أدرك سبعين من أصحاب بدر أخذ عنهم، ثم ترحل في الأمصار بحثًا عن المعرفة ورواة الحديث، ولهذا يعد مذهب الإباضية أول المذاهب نشأة إلى أن صار فرقة مستقلة، وهو مذهب معترف به في مجمع البحوث الإسلامية كما في موسوعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ويدرس في الأزهر الشريف في مقارنة الأديان، وقد اقتبست القوانين المصرية في المواريث بعض آرائهم كما في الميراث بولاء العتاقة، وهو مذهب له أعلامه ورموزه وكتبه وفقهه ومسنده الرئيس مسند الإمام الربيع بن حبيب، حتى أن الأزهر في فتواه يرجع لهؤلاء العلماء وفتواهم عسى أن يجد عندهم ما نقص في المذاهب السنية الأربعة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.

  • إذن فلماذا تعد الإباضية من الخوارج؟
  • جميع المؤرخون والعلماء ذكروهم بأنهم من الخوارج، والمنصفون الإباضيون لا ينكرون ذلك، ولكنهم صححوا رؤيتهم، فلم يكفروا صحابيًا سواء عثمان أو علي، وإنما يعتبرونهم غير معصومين، فمذهبهم لا عصمة بعد النبي، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، يرون كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله واتجه للقبلة فهو مسلم دمه حرام، ويتعاملون معه ويزوجونه ويتزوجون منه، بل المذهب الإباضي به ما لم يوجد في أي مذهب آخر، وهذا ما جعل العادلين من المستشرقين والباحثين الأوربيين يهتمون به لأنه لا يرضى بأي حاكم ظالم كائنًا من كان، بل لا يُسلم بقضية وجوب الإمامة في قريش كما تؤمن بها أهل السنة، ولا يؤمن بعصمة الإمام كما ترى الشيعة، وإنما لهم قاعدة أساسية أن أي إنسان صالح حر تقي يولى وإن خالف فليعصى ويعزل فلا عصمة لحاكم أو لإمام.

بمجرد القضاء على هذا المحشي وضلوعه الدسمة المليئة بالطاقات المتنوعة شعروا بالحاجة للنوم العميق والاسترخاء، فلم يستطع مؤمن أن يواصل حديثه ولا رواية أن تسأل، فعادوا أدراجهم للفندق، ومع وصولهم تناثر الجميع إلى مراقدهم، ومع كل هذا الزخم التاريخي الذي اطلعت عليه لم تغب كلمات القصيدة من ذاكرتها فعادت تجتاح قلبها، فما وطئت قدميها داخل الغرفة حتى هاتفت والدتها في عجلة:

  • أمي، أشتاق لك كثيرًا.
  • لهفتي لك أكثر يا بنيتي، كيف حالك؟
  • إنني بخير، طمئنيني عليك.
  • بخير نحمد الرب.
  • هل إيمان تهتم بك جيدًا؟
  • بعد سفرك بسويعات قليلة غادرت إيمان لصعيدها حيث والدها مرض فجأة، ولكن لا تقلقي عليَّ يا بنيتي فأنا على أكمل وجه.
  • وأين قصة، بجوارك؟

ارتبكت الأم وتردد فكرها، واتضح من صوتها أن الأمور لا تسير في مجراها الطبيعي، فقالت بلسان متعثر وكلمات متقطعة:

  • لا يا بنيتي.
  • ماذا هناك يا أماه؟
  • قصة سجنت في قضية شرف يا بنيتي، لقد قبض عليها في وضع مخجل مع زميلها المسلم.
  • ماذا تقولي يا أماه؟! كيف هذا حدث؟! من المستحيلات قصة تفعل هذا!
  • واأسفاه لقد تلبست بالجريمة.
  • لا يا أماه وإنما ألبست إياها، ومن هذا الشاب المسلم؟
  • لا أحد يعرف فلم يفصح عنه، والحمد لله يا بنيتي أنك بعيدة عن نطاق الأحداث، فسفرك هذا أفضل، فلا تتعجلي في الرجوع، فلعله الخير هناك لا هنا، أما قضية قصة فلا حيلة لي، فالأمر عسير، ولا أعلم أي باب أطرق.

أنهت المكالمة ويعتري صدرها بركان من الأسى والحزن والغضب العارم، فحاولت الاتصال بإيمان حتى تتطلع على كافة التفاصيل بشأن هذا الأمر، وجدت رقمها غير متاح، فقذفت بالهاتف بعيدًا عنها، وأمسكت رأسها بكلتا يديها عسى أن تحمل معها بعض همومها المفاجئة، وبينما هي على هذا الوضع، تتذكر تفصيلة صغيرة من أحد أحاديثها السابقة مع إيمان، فكيف ذهبت إيمان لوالدها المريض وقد أخبرتها سابقًا بأن والديها قضيا نحبهما منذ عدة سنوات؟!

في دقائق معدودات، أسرعت لتشغيل جهاز إلكتروني في غرفتها لتتصفح المواقع الإخبارية المصرية، فوجدت موضوعًا بعينه يتصدر جميع الصحف وإن تعددت عناوينه، فكان أبرز ما تصفحته:

“القبض على شبكة دعارة مسيحية يقودها مسلم”.

نقرت رابط الخبر وشرعت في القراءة، ويا لها من كلمات فظة شرسة ثقيلة على النفس قاتلة للروح، وماذا ينتظر من أبواق السلطة غير هذا، فالصحفي وظيفة التابع نوعًا الجاحد قلبًا كما يُملى عليه يفضي، ولكن الفاجعة الكبرى عندما قرأت الأسماء، فهذه الأسماء تعرفها جيدًا وتحفظها عن ظهر القلب، فهي بعينها أسامي الرفاق، فأصابها الذعر كل الذعر، فلملمت حاجاتها في عجالة وتسللت من غرفتها خفية، أدركت أن هناك أمرًا يدبر لها، وأنها هنا لأن جهة ما تخطط لأمر ما، ولكن ما يحزنها ويثقل نفسها ويزاحم فكرها، كيف أن إيمان تعاونت مع الكنيسة ضدها؟

“لقد خططتها ماريا بأسلوب أكثر حبكة”، أمسكتها في نفسها وهي تهرول مبتعدة ولا تعلم واجهتها، حتى استقرت بها قدميها عند المياه البيضاء، فوجدت ألماسة ما زالت هناك، ولكنها تنشد هذه المرة أبيات لأول مرة تصل أذانها، فاقتربت منها بترقب، وأخذت تستمتع لإنشادها الأجش:

ماذا أفادتْني هدايا

أُهديَتْ بَعد َالهلاكْ؟

كيف التَجَمُّل ُفي مَرايا

لا أرى فيها سواكْ؟

أَخَلَقْتَها حتى ترى

مَن قد خلقت َلكي تراكْ؟

فتشدّ من أحبال صوتي

كلّما صوت ٌدعاكْ؟

صدْني ومزّقْني

فإن النَّاسَ ترميني

ببَحرٍ ليس يبغيني

فلا تُربٌ ولا ماءٌ بطيني

لا هَلاكْ

صدْني فإنّي لا أصيدُ ولا أُصادُ.

أنا الشّباكْ

راقت لها هذه الأبيات الرقيقة الصادقة الحنونة المعبرة بقوة عن حالتها، فدنت منها أكثر ولم تشعر ألماسة بها إلا وهي تحضنها من الخلف بينما دموعها تنهمر من عينيها فسألتها:

  • لمن هذه الكلمات؟

فأجابت ألماسة بنبرة هادئة:

  • إنها للشاعرة العربية ميسون السويدان.
  • يا لها من شاعرة مرهفة الحس صادقة القول، زيديني من قولها.

أخذت ألماسة تطرب بصوتها العذب:

أنا ربّما

أبكي قليلًا في سريري دونما.

يدري بدمعي إخوتي

لكنّما.

تبقى أمامَ النَّاس تكبر بَسمتي.

تزداد لمعتُها إذا ما خَضَّبَتْها دمعتي.

أنا عندما أطلقت ُآهاتي ولم

تسرحْ ملامحُ بسمتي شوقا إليكْ.

أصبحتُ أفهمُ ما لديَّ وما لديكْ.

ها قد ملكتُ سعادتي

لكنَّ حزنيَ في يديكْ.

فَمتى سترجع أدمُعي؟

وإلى متى أبكي عليكْ؟

هذي شموعُكَ لم أزلْ

بالليل أرجوها فلمْ تَتَعَطَّف

ما بالُها لم تَنطَف؟؟!

مُتْ! أو لتَتركْني أَمُتْ!

اخترْ مماتًا أو حياةً واختَف

لا تحيَ كالأشباح فيّ.

بكت رواية شوقًا واسترسلت في حزنها، فكأن الشاعرة عالمة بأمرها، تتحدث بلسانها، مترجمة لإحساسها، بعد أن هدأت نفسها وسكنت روحها وجففت دموعها، توجهت إلى ألماسة:

  • هناك شيء سيسعدك، أنا مسلمة وأحتاج لمساعدتك بعض الشيء.

تصاب ألماسة بالذهول، كل الذهول، وتقول وهي تشير نحو معصمها:

  • وهذا؟
  • حب الله والإيمان به لا يعوقه رمز أو صليب.
  • صدقتِ، ولكن ما أمرك؟

روت رواية على مسامع ألماسة مجمل حكايتها ومجموع حياتها، فاندهشت ألماسة بل أعجبت بها كثيرًا، وفتنت بمغامراتها العجيبة، فكم هي فتاة خنذيذة لم تخيب، بل ظلت شوساء طوال مسيرتها النجيدة، حتى وصلتا إلى السؤال الإجباري، وما الحل الآن؟

بعد برهة قصيرة من التفكير الرصين صاحت ألماسة:

  • زنجبار.
  • زنجبار!
  • نعم زنجبار، وهي تنزانيا اليوم!
  • ولكن كيف سنذهب لتنزانيا وهي في شرق أفريقيا؟
  • لا تقلقي أنا سوف أتولى هذا الأمر، لأنني قدمت من هناك، وأعرف الوسيلة التي ستمكننا من العودة إلى هناك مجددًا.
  • ولكن أنا لا أعلم شيء عن زنجبار فكيف سأعيش هناك؟
  • لا تقلقي سأحدثك بكل شيء في وقته، الآن هيا بنا نختبئ قبل أن يكشف أمرنا.

ذهبتا إلى كهف ناءٍ عميق مظلم كسائر الكهوف في المياه البيضاء، كان يتخلله بعض أشعة فانوس جازي، تركت ألماسة رواية في الكهف وغادرت لبدء أولى خطوات خطتها لتتمكن من العودة بها لزنجبار، أما رواية فلاحظت وجود كتاب تركته ألماسة قبل مغادرتها، فاقتربت منه في خشوع وأمسكته بكلتا كفتيها في خضوع وإجلال، لا تستطيع أن ترى كتاب دون أن تلمسه وتتصفحه، لا تعرف كيف تقاوم عشق الكتب وهل لعشق الكتب مثيل حتى يقاوم؟ أول ما فعلته، وهي في حضرة الكتاب صاحب الهيبة ذو الوقار، احتضنته بين ذراعيها، ثم دنت أنفها من ورقاته، فكم تشتاق لتلك الرائحة المميزة والنكهة الخاصة التي تشعرها بالراحة النفسية وتبعث فيها الأمان والاطمئنان والتفاؤل، وهي لا توجد سوى في الكتب، في الكتب فقط، اقتربت والكتاب يزال في أحضناها من الفانوس الجازي، فجلست القرفصاء، وألقت ببصرها على الغلاف فوجدت باللغة السواحلية “Mbali Na Nyumbani لشافي آدم”.

فترجمت بصوت مهموس:

  • بعيدًا عن الديار! يا له من اسم جذاب!

استعاذت بالله وبسملت ثم أخذت تقرأ وتقرأ، وهي مستمتعة به لأنها لأول مرة تقرأ عمل تام في الأدب الأفريقي باللغة السواحلية، وإن كان الكثير من المصطلحات والمفاهيم تحجبها عن استدراك كل شيء، ولكنها تفهم الأفكار الرئيسية، ظلت هكذا مستأنسة بمسامرها حتى صارع النعاس جفونها وأثملت الظلمة عقلها، ولم تستيقظ إلا على صوت ألماسة وهي تصيح بها في هدوء وتهز جسدها المهفهف، أفاقت رواية من سباتها العميق، ولكنها لا تعرف كم من الوقت استغرقت في القراءة ولا كم نامت، أخبرتها ألماسة بأنها تجسست على المهربين وعلمت أن هناك سفينة عائدة ستبحر بعد ساعات قليلة لزنجبار، ويجب عليهم أن يكونوا مستعدين للرحيل في غضون ساعة، فقالت رواية:

  • ولكن ليس لديَّ مال كافي لنفقة هذه الرحلة؟
  • ولا أنا أيضًا.
  • فكيف سنبحر إذن؟
  • هذه السفينة غير شرعية، وسوف نسافر عبرها بطريقة غير شرعية لشرعيتها.

لاحظت ألماسة على وجهها عدم الاستدراك فتابعت:

هذه السفينة مهربة، تتنقل عبر البحار خفية، حيث تحمل في جوف إحدى السفن العملاقة إلى أن تعبر قناة السويس، ثم تنحدر من السفينة الكبرى وتتبع مسارها، ونحن سوف نغفل قبطانها ونختبئ بإحدى حمولاتها، لا عليك بهذا الأمر ستفهمين فيما بعد.