أقامت رواية مع ألماسة في الدار الأفريقية المطرزة بالعمارة العمانية للرجل العربي الكبرة، وإن كان العم مرجان لا يتكلم من العربية الكثير، جسده مع طوال العمر نحل ووهن، وعظمه رق، وشعره شب، أما ذاكرته فهي فولاذية ما زالت تطوي بين ثناياها الكثير، كان حنونًا عليها للغاية، وشفق لحالها كثيرًا وترفق بأمرها، وعطف عليها بكل مادي يمتلكه، وكل معنوي يكنه، أخذ على نفسه إتقانها اللغة السواحلية الصحيحة، كما فتح لها المجال لتعلم لغات أخرى عرفها وأتقنها سابقًا من الجاليات الماضية التي انتشرت في أفريقيا بكثافة غير معقولة.

وذات صباح حيث تفترش رواية أمام البيت، تقرأ في الرواية، وتعلو ملامحها من حين لحين الدهشة والعجب كل العجب من هذه الحقائق التي تعلمها لأول مرة عن بلد وثورة وأناس وتاريخ لا ذكرى له، بينما العم مرجان يُصلح الأخشاب، وألماسة تمشط شعرها، بادرت ألماسة مخاطبة إياها:

  • دعك من هذه الرواية، أنت في حوزتك شاهد عيان حقيقي على كل أحداث الثورة، لقد سجن أكثر من 15 عامًا إثر الانقلاب.

فاندهشت رواية من أن العم مرجان يعلم حقيقة الأحداث فخاطبته مرتبكة:

  • أحقًا هذا أيها العم؟! فيا لسذاجتي فكيف لم يخطر ببالي أن أتجرع من بحورك لإشباع فضولي المعرفي.

فتوقف العم نعيم عن تخشيب ما بين يديه، وأفلت الفأس من بين أنامله وقال:

  • هل حقًا تريدين معرفة الحقيقة؟
  • بكل تأكيد.
  • إذا فانهضي معي يا بنيتي.

دس العم ذراعه النحيف في ذراعها الأنحف، وأخذ يتعكز متكئًا عليها، ويتسند معها حتى توغل في الغابة المجاورة لمنزله وأشار بإصبعه سائلًا:

  • أترين هذه الخنادق؟
  • إنها عميقة سوداء مفزعة.
  • هاهنا يا بنيتي في يوم الأحد 12 يناير من عام 1964م اشتعلت النيران بين أجساد ثلاثة عشر ألف مسلم، أغلبيتهم من أصل عربي، والبقية ممن ساند العرب من الشيرازيين والأفارقة والهنود، فليس هتلر وحده من أشعل محرقة، وإن شكك العالم أجمع في محرقة هتلر، فلن يستطيع نفر تكذيب أو نفي محرقتنا، من أجل هولوكوست اليهود أشعلوا الدنيا واحتلوا العالم وأقاموا الحروب واغتصبوا الأراضي والدور، أما هولوكوست العرب فزوبعة انقضت.
  • ولكن كيف ولماذا حدث هذا يا عم؟
  • سطر في التاريخ أنه ادعى كرومي ومن معه من حزب الأمة، وحزب الأفرو- شيراز المعادين بشراسة للعرب المسلمين بأن في نية العرب مهاجمة وقتل كل الأفارقة يوم الاثنين 13 يناير، فحشد الناس ظاهريًا على نية المظاهرات والاحتجاج أمام قصر السلطان في ذاك اليوم الشؤم، يوم الأحد 12 يناير، وفي الجانب الآخر فقد استأجر القس يوليوس نيريري رئيس منطقة تنجانيقا آنذاك مرتزقة من الكونغو لمساعدة أهل بامبي في قتل العرب وإنهاء وجودهم، فقُتل من قُتل، وسجن من سجن، أما السلطان فقد لجأ لسفينة بريطانية حملته إلى إنجلترا، وكان قد استلم سلطته في 10 ديسمبر عام 1963م.
  • هذا ما سطر في التاريخ، أما الحقيقة كما عشتها أنت؟
  • الحقيقة التي يعتم عليها كما عتم من قبل على الفيلم الإيطالي (أفريقيا الدم والبأس) الذي صور الأحداث بكل دقة، أن هذه الثورة من أعجب ثورات التاريخ وأبشعها وأعنفها في أفريقيا فلأول مرة تقام ثورة بلا أبنائها، فلم يعلم كرومي ولا غيره من أعضاء حزب الأمة وحزب الأفرو- شيراز بحقيقة الانقلاب إلا في الصباح الباكر، عندما أيقظهم رجال كلب التاريخ جون أوكيليو اليوغندي السفاح الذي كان يرى في نفسه مسيحيًا مخلصًا للأفارقة والمسيحيين كما كان يزعم من خلال روايته لرسائل الرب له في المنام وهديه باستخدام آيات الإنجيل وتفسير الأحلام، والذي اشتهر بشخير التاريخ، حيث في أيام تشرده الأولى في كينيا أحسن إليه رجل عربي بمأكل وملبس ومبيت ولكنه كان شخيرًا مزعجًا فنهره العربي عن هذا وطلب منه عدم الشخير قائلًا له: أيها العبد، من ليلتها وهو يبيت النية للقضاء على العرب، فكيف لعربي أن يجرؤ على منعه من الشخير أليس من حق المشخراتي أن يشخر بأريحية؟! ومن هذه النفسية عدم السوية بدأت مسيرته الوحشية القذرة العنصرية، ويرجح أنه كان يعمل وقتئذ في شرطة زنجبار عندما دبر الانقلاب، ولم يكن معه سوى 31 جنديًا زنجباريًا فقط، فبأي حق تسمى هذه الثورة ثورة! كما أنه هذا المخلص صاحب الانقلاب يوغندي الأصل، أم السلطان المنقلب عليه هو زنجباري أكثر منه ولد وعاش في زنجبار كما ولد من قبله وترعرع أبوه وجده.

تعجبت رواية كثيرًا من تغفيل التاريخ لهذه الجزئية الهامة لفهم طبيعة قيام الثورة المزعومة وقالت بلهفة:

  • وبعد؟
  • وقد حدث ما حدث، فاستغل كرومي الانقلاب، ووافق على قيادة مجلس الثورة الذي أعلنه جون أوكيلو والذي منح نفسه لقب الفيلد مارشال جون أوكيليو بالرغم من عدم تكوين جيش زنجباري حتى ذاك الحين! وبعد ستة أشهر من انقلابه نفاه مجلس الثورة خارج البلاد وأعتبر مهاجر غير شرعي، غير مرغوب فيه، واصطاد كبار المعارضين والسياسيين في المياه العكرة لانقلاب أوكيليو، بينما كان زعيم الانقلاب يموت جوعًا ومرضًا لا يجد من يداويه أو حتى يطعمه فصار متسولًا في شوارع وعواصم أفريقيا السوداء يبحث عن خبزة يسد بها رمقه بينما السلطات تبحث له عن ورقة ثبوت، وأصبح المسيح المخلص المزعوم أكذوبة أخرى كغيرها من الأكذوبات المسيحية والمهدية والصهيونية التي دمرت العالم من أقصاه لأقصاه.
  • وماذا عن كرومي؟
  • بعد أن اقتطعت صورة أوكيلو من الصحف وامحى اسمه من التاريخ الزنجباري، تزعم كرومي الوطن واتحد مع منطقة تنجانيقا برئاسة نيريري لتكوين دولة واحدة، تنزانيا، دار السلام العاصمة، نيريري الرئيس، نائبه في زنجبار كرومي الذي شرع في الاستبداد كغيره من زعماء عصره فأصبح طاغية من أبشع الطواغي في التاريخ اتضح للعيان خاصة بعد صدور القانون التعسفي والذي يفيد بتزويج أي امرأة عربية أو هندية أو فارسية لأي رجل أفريقي يرغبها رغمًا عن أنفها، ومثل هذه السياسات المستبدة أدت لاغتياله في عام 1972.
  • ولكن ما الذي يدفع برائد تحرري كنيريري أو حتى كرومي لموافقة هذا الأمر الشنيع، والاعتراف بهذا الانقلاب الدموي؟
  • لأن النتائج التي توصل إليها أوكيلو وإن كانت بطرق غير شرعية بالمرة إلا أنه نجح في النهاية في خلع السلطان العربي وحكومة الحزب الوطني الحاكم.
  • ولكني ما علمته أن آدم شافي كاتب الرواية، وهو كان عضو مؤسس في حزب الأمة، كما أنه شارك في هذا الانقلاب، أنه قد تلقى هو وزملاؤه تدريباتهم العسكرية في مصر، ولكن لم أفهم ماذا يقصد؟
  • إنها الحقيقة المريرة يا بنيتي التي يندى لها الجبين، ويا لها من واقع أليم، نحاول جاهدين نسيانه وطيه في ذاكرة التاريخ، ولكن تأبى القلوب والعقول، فهؤلاء العرب أصلًا، الأفارقة وطنًا، المسلمون دينًا، ذبحوا بأسلحة عربية أمدتها الجزائر، وبفضل تدريبات وخبرات عسكرية متفوقة وفائقة في مصر وكوبا، وبتدريبات من الكونغو لبعض أهل بامبي من الأفارقة، وكل طبق خطة أوكيليو.
  • ولكن لماذا فعل عبد الناصر هذا؟
  • ما سمعناه ساعتئذ أنه كان يريد تحرير زنجبار من حكم العرب السلطاني كما كان يتطلع في اليمن، ولكن يا بنيتي أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، فالطمع والجشع والرغبة قد سيطرت على الأفارقة فساقونا للمحرقة والسجون كالمواشي والأنعام، كما أن أوكيلو كانت له خطته الخاصة التي نفذها الجميع.
  • وهل هذا يبرر له أو للجزائر فعلتهم المشينة؟
  • لم ولن يبرر، فالتاريخ هو التاريخ، وإن سرق أو حرف بعض الوقت، دائمًا ستظل الحقيقة ثائرة، تأبى الانكماش والانطواء، قد تخمل حينا من الوقت، ولكن حينما تدق اللحظة الحاسمة، ستخرج للعامة رغم أنف الجميع، ولكن للحقيقة، صرح بعض الباحثين مؤخرًا بأن السفينة “ابن خلدون” التي كانت تنقل السلاح من الجزائر كانت في طريقها لموزمبيق دولة الجوار وتم الاستيلاء عليها من قبل أوكيليو وجماعته والله أعلم يا بنيتي.