أقامت رواية في صحبة ألماسة في بيت العم مرجان ما يقرب من عام كاملة، تعرفت عن قرب العادات والتقاليد الأفريقية، كما أنها تمكنت من اللغة السواحلية وآدابها، كما أتقنت أيضًا اللغة الإنجليزية التي يتحدث بها معظم السكان وإن كانت الإنجليزية براء مما ينطقونه، وتعلمت بعض الشيء من اللغة الألمانية، والكثير من الإيطالية والإسبانية والفرنسية والبرتغالية، التي يتقنها العم مرجان باحترافية ومهارة شديدتين كمعظم أبناء جيله، وهذا بفضل البعثات الأوربية التبشيرية الكثيفة التي كانت تعمل على تنصير المسلمين بعد الانقلاب، والتي باءت جميع محولاتهم مع العم مرجان بالفشل، فلم ينتج عنها سوى تعلمه للكثير من اللغات الأجنبية، واندثار العربية عنده.

ذات ليلة مقمرة، بينما كان يجلس العم مرجان بين أكوام كتبه، هبت عليه رواية من الخلف، فقبلت رأسه ويديه، ثم أخذت بدورها المعتاد تعبث في كتبه فقرأت عنوانًا لمخطوط متهالك بالألمانية ترجمته بالعربية بصوت متوجس ولكنه مرتفع بعض الشيء:

  • عربية يوميات أميرية.

تلعثمت قليلًا كأي مترجم يحاول ضبط ترجمته فتوصلت إلى:

  • أميرة عربية، يوميات ورحلات.

فانتشله العم سريعًا من بين يديها بعنف صائحًا بها:

  • لا، هذا الكتاب لا يليق لك قرأته.

فتعجبت كل العجب من رد الفعل المدهش، ولم تدرك لماذا العم قام بمثل هذه الفعلة الغريبة على سلوكياته، لم تنبس ببنت شفة، وقامت في سكون، وصعدت غرفتها في هدوء، فخلدت للنوم، ولم تنتظر ألماسة لحين عودتها من عملها، بالرغم من أن اليوم موعد السهرة الأسبوعية المعتادة.

حينما استيقظت في الصباح استصحبتها ألماسة طبقًا لخطتهم الأسبوعية، كانوا على اتفاق لزيارة قصر المونتي التاريخي الذي أنشه السلطان سعيد عندما وفد لزنجبار وأقام فيه، وبينما هن جالسات في بهو القصر يتطلعن بحسرة وانكسار على الأطلال، ركزت ألماسة بعينها على إحدى الزوايا وقالت:

  • عجبت لك يا ربي، أمن بك قلبي كل الإيمان، ولكن عجز عقلي عن فهم قدرتك، وكيفية سير قدرك، وأين تكمن حكمة قضائك.

فقالت رواية مستفهمة:

  • لمَ تقولين هكذا؟
  • لا عليك، ولكني أرى أنك مهمومة محزونة بعض الشيء، فما بك يا رفيقة دربي؟
  • لقد حدث بالأمس شيء عجيب يا أختاه، فلأول مرة العم مرجان يغضب هكذا لاطلاعي على كتبه، فدائمًا ما يدعونني ويحثني على قراءة الكتب، ولكن عندما أخذت ذاك الكتاب الألماني بالأمس تغيرت ملامحه وأبعده عني في نفور.
  • وما هذا الكتاب؟
  • أميرة عربية، رحلات وجولات.
  • سبحانك يا الله! لقد بلغ العجب أقصاه.
  • ماذا هناك؟ لا أفهم شيء!
  • ذاك الكتاب هو مذكرات تلك الأميرة التي سكنت هذا القصر الذي نحن فيه الآن منذ قرن من الزمان، وقد كتبته تصف فيه للقارئ الأوربي كيف يكون المجتمع العربي والأفريقي والإسلامي، كما أنها تدافع بقوة من خلاله عن معاملة العرب والمسلمين للنساء محاولة لتغيير النمط التقليدي الذي يقبع في عقل الأوربيين نحو العرب والمسلمين.
  • وهل هذا يدعو لغضب العم مرجان؟ ويتطلب تعجبك لهذه الدرجة؟
  • الأميرة العمانية سالمة بنت سعيد أحبت فتًى ألمانيًا.
  • نعم! وهل الحب معضلة أيتها المستفزة؟
  • الحب ليس معضلة ولا مشكل على الإطلاق، أعتقد أن العم مرجان لم يقرأ هذا الكتاب لأنه مخطوط متشابك، وإنما علمه بأمر الأميرة جعل عقله يكون فكرة مسبقة عنها، ولهذا قد خشي عليك قراءته.
  • ما أمر هذه الأميرة حتى يخشى عليَّ، وأنت تتعجبين؟

فرفعت ألماسة نظرها للسماء مخاطبة بدهشة:

  • سبحانك ربي! قديمًا خرجت من هنا، ومن هذا القصر، مسلمة تنصرت لتتحامي في أوساط المسيحيين، واليوم تأتي لهنا مسيحية أسلمت لتتحامى فينا نحن المسلمين.

فأصيبت رواية بالذهول والعجب بلغ أقصاه، بينما تطرقت ألماسة برأسها قليلًا ثم قالت:

  • لا تنزعجي من العم مرجان فهو قد خشي عليك من صدمة تنصرها، قد تكون ندمت ندمًا شديدًا على فعلتها، أو فخرت بها، في الأمر شكوك كثيرة تحتاج لبحوث حقيقية.
  • ولكن ما الذي أدى بها لهذا الأمر؟
  • ما ترويه هي أنه نتيجة الصراعات السياسية داخل العائلة السلطانية، فكان للأب السيد سعيد من الجواري والإماء خمس وسبعون غير زوجته الشرعية الوحيدة عزة بنت سيف، ولهذا خلف وراءه ستًا وثلاثين ابنًا، من الصعب اتفاق كل هؤلاء وتجمعهم حول سلطان واحد، ولهذا انقسموا للعديد من المجموعات كل لها مؤامرتها، تورطت هي في إحدى تلك المؤامرات والتي أدت بها في النهاية للهلاك، فأحبت فتى ألماني كان يتاجر في زنجبار وسبقته لميناء عدن لتنتظره هناك ليسافروا معًا لألمانيا، وأثناء إقامتها في عدن تنصرت على يد أسرة إسبانية كانت تقيم معها، ففي ذلك الوقت كان التبشير المسيحي في أفريقيا يعمل بكل جهد، حيث أنه يوفر المال والمسكن والأمان، فالتبشير المسيحي في أفريقيا له من الآثار التي ما زالت شاهدة عليه ليومنا هذا، ولكن أمر هروبها وسببه الحقيقي مجهول للآن لأنها لم تذكره أبدًا في أي من كتبها التي خلفتها والتي تعرف في المكتبات الأوربية بالإرث الأدبي السالمي.

بعد برهة قصيرة سادها الصمت الحزين والدهشة الكئيبة إثر المفاجأة ارتجلت ألماسة بحرص شديد في محاولة للقراءة من الذاكرة:

  • أحفظ الكثير من أقوالها لأنها تهون عليَّ في غربتي، أتذكر منها ما قالته في يومياتها المنشورة وهي في طريقها لزيارة زنجبار عندما نزلت بالإسكندرية: “وما أن نزلت الإسكندرية، وأصبحت بين مساجدها ونخيلها، حتى طغى عليَّ إحساس عميق بالشوق والحنين للأهل والوطن العزيز، شعور لا يعرفه إلا كل من تغرب مثلي عن بلاده سنين عديدة، فهو شوق لا يشعر به إلا من عاش الظروف المنحوسة القاسية التي عانيتها”.

صمتت ألماسة قليلًا حتى تستوعب رواية قولها ثم أردفت:

  • أما حقيقة موقفها من نفسها يتضح فيما قالته في زيارتها السياحية لمسجد محمد علي بالقلعة.

غادرت الفتاتين القصر في طريقهم للعودة لمنزل العم، والمفاجأة ما زالت تسيطر على رواية، وآثارها تتملك جميع جوارحها، حتى وصلتا البيت، فوجدتا العم جالس في انتظارهن، فاقتربت رواية منه وقد دمعت عيناها قليلًا:

  • يا عم والله إنني ما دخلت الإسلام إلا أنني اقتنعت بالواحد الأحد وأمنت به وبرسوله خاتم الأنبياء، كما أنني أمنت بأن عيسى نبي الله ابن مريم الصديقة خلقه الله من طين كما خلق آدم ونفخ فيه من روحه، فلا القلب حزن ولا العين دمعت خوفًا من أنني قد ضللت الطريق، ولكن ما حز في نفسي وأحرق صدري ومزق قلبي أنك قد ظننت بضعف إيماني، فخشيت عليَّ الفتنة من الحكاية العجيبة لتلك الأميرة الأعجب، فجل جلاله أقرب لمن يبحث عنه بالعقل، أكثر ممن يؤمن به بالفطرة.

رق قلب العم وفاضت عيناه بالدمع، فأخذها بين ذراعيه وقبل رأسها، وأثر السكوت، فلا قول أفضل من قولها، ثم سار باتجاه المكتبة وأتى بالكتاب الذي سبق لرواية أن رأته ومعه ما يقرب من عشرين مخطوط غيره وقال:

  • هذه لك، ابحثيها وحققيها وانشري ما فيها بصدق وأمانة وشرف، فلقد حرفت كثيرًا، فحياتها درس سياسي وثقافي وديني واجتماعي العالم العربي والإسلامي في حاجة له.

أخذت مجمع الأميرة الصغير من العم وكان يضم بعض إرثها، وبعد أن أمنت مخبأه، ذهبت للاستحمام، فبعد هذا اليوم الشاق نفسيًا أكثر منه بدنيًا، لا أفضل من الماء البارد ينساب على الرأس فيمحي آثار الأفكار المتداخلة التي تتزاحم بين خلايا العقل وثناياه، فظلت تحت الماء نحو ساعة كاملة تُصبن جسدها بالصابونة الطبيعية عشوائية حتى كادت أن تٌبرى، فالذكريات أخذتها بعيدًا وكأنها تعمدت جميعها أن تزاحمها آنذاك، فأخذها الحنين للأم تارة، وللحبيب تارة، وللرفقاء تارة، فكيف حال الأم وهي لا تعرف عن بنتها شيء؟ وكيف حال أنس وقصة وجميع الرفقاء بعد أن زج بهم ظلمًا وعدونًا؟ ومن خطط لها لكي يُنفرد بها في تركيا، ولماذا؟ وأسئلة كثيرة تزاحمت في عقلها، ولم تستيقظ من غفلتها إلا عندما أحست بشيء غريب يلامس جسدها، فانتبهت ونظرت للصابونة التي بيدها فوجدتها على وشك الانتهاء، ويبرز من طرفيها جسم غريب حاد كأنه دس بباطنها، فقامت بسحبه بشدة حتى خرج بين يديها فأخذت تعمل على تصفحه، فلاحظت بداخله شيء أبيض وكأنه ورقة، فمزقت هذا الغلاف البلاستيكي وأخرجتها، ففتحتها وهي في قمة القلق والاستغراب، فماذا سيكون هذا؟ وقرأت ما سطر بالعربية:

(إن كان من يقرأ هذه الورقة هي رواية، إذن فهذه الرسالة لك، إذا أردت معرفة الحقيقة فابحثي حيث تقيمين عن خمسة حكماء تجاوزت أعمارهم مئات الأعوام، وأخذيها من باطن أوسطهم عمرًا، فعامنا هذا هو عامه الواحد بعد الخمسمائة).

فانتابتها قشعريرة زلزلت جسدها، وجمدت دمائها، فما هذا الشيء الغريب، تشعر وكأنها تشاهد فيلم عربي، لبست لباسها، وخرجت مسرعة تحاول أن تسيطر على بعض أعصابها، فالخوف لمس أبعد نقطة بداخلها، فهرولت باتجاه ألماسة ومدت لها بتلك الورقة، فقالت الأخيرة بفزع شديد:

  • هذه القصاصة تعني أننا في خطر شديد، لابد أن أعلم القادة بالأمر.

فأجابت رواية بثغر مفتوح كنتيجة طبيعية لرد فعل ألماسة:

  • أي خطر تقصدين؟ ومن هم القادة هؤلاء؟
  • رواية أنت تثقي بي كثيرًا، فلا تقلقي فأنا معك لحمايتك.
  • يا إلهي، من أنت؟ ومن أي شيء تبتغين حمايتي؟
  • لا وقت للحديث الآن، قليلًا من الوقت وسوف تفهمين.