في حينها أمسكت ألماسة بيد رواية وهرولت بها لخارج البيت إلى أن بلغت منزل متطرف يبعد على الأقل 300 متر، فدفعت الباب بقدميها ودخلت منزعجة واندفعت قلقة نحو قائد المطارح المنبثقة، وهو المندوب الميداني المسئول عن جزئيات مكان رواية، وما أن رآها حتى اضطرب وصاح بها:

  • أجننت، ما هذا الذي تفعلينه؟ كيف تحضرينها إلى هنا؟
  • هناك شيء غريب يحدث سيادة الهيثم، أين الصاقر أو الهيثم البكر؟
  • الصاقر ليس هنا، أما الهيثم البكر بالداخل.
  • اهتم بها إذن لحين أعود.

تركتها بجانبه حائرة مرتبكة لا تعي شيء مما يدور حولها، وقدميها لا تقوى على حملها، فقلبها أهون من أنه يتحمل تلك المفاجآت المتعاقبة كالسهام، ومضت نصف ساعة لم يتعطل خيالها عن بناء الأنسجة الجامحة، فعقلها ما ترك شيء إلا وقد تنبأ به، فماذا يخبئ القدر، خرجت ألماسة وقد تجلى على معالمها السكينة والهدوء على عكس حالتها أثناء الدخول، ونادت في رواية بأنه في غضون دقائق قليلة سوف تحضر إليها سيادة الهيثم البكر، القائد العام، فتطلعت رواية عبر الممر الممتد أمامها لترى الشخص المنتظر خروجه، فوجدت آخر من تخيلت رؤيتهن، إنها إيمان، نعم إيمان جارتها أو هكذا كانت تظنها، فدارت الدنيا من حولها وسقطت مغشية عليها.

فاقت رواية من غيبوبتها بعد ثلاث دقائق، فوجدت إيمان وقائد المطارح وألماسة يلتفون حولها، فجلست لتسند ظهرها بمشقة، وحاولت بكل طاقتها عصر مخيلتها لتذكر الرؤية التي اجتاحتها في الغيبوبة، فما تذكرته بصعوبة بالغة أنها رأت أنسيموس كان يرتدي زيًا أسود ويسير في طريق طويل، وبعد فترة قصيرة، أبدل زيه بأبيض وسار في اتجاه بستان جميل للغاية، ثم استدار لشماله وأبدله بآخر أحمر وسار في ممر آخر نهايته ثغرة كبيرة تتوهج نيران وهو يقترب منها، قاطعتها إيمان حينما وضعت كفيها على خديها وقالت:

  • رواية لا تقلقيني عليك، فأنا لست عدوك.

رمقتها بنظرة ثم صرفت عينيها عنها فتابعت علا:

  • بالفعل لقد كذبت عليك، ولكن أقسم بالله العلي العظيم أنني أعمل في خدمتك.
  • لا تقسمي بالله كذبًا، كفى يا إيمان، أو يا حضرة الهيثم البكر، ألم يبعثوا بكِ لقتلي، فهيا اقتليني فأنا بين يديك.

ثم التفت ناحية ألماسة لائمة:

  • آخر ما كنت أتوقعه أنك تشتركين مع هؤلاء في مؤامرتهم الدنيئة هذه، لقد اعتبرتك أختي الصغيرة التي حرمت منها، ولكن اعترف وأقر بأنكم خططتم جيدًا.
  • رواية، افهمي نحن في خطر الآن، وعلينا الرحيل في أقرب وقت.
  • لا أريد منكم شيئًا، فأنا فريستكم فافعلوا بي ما تشاؤون، كما فعلتم بأنس وقصة وبقية رفاقي من قبل.
  • رواية استمعي لي جيدًا بالله عليك، أنا وألماسة لسنا ضدك ولسنا تبعًا لمن اعتقل رفاقك في مصر، وإنما نحن نعمل لحمايتك والمحافظة عليك.
  • لماذا تريدون حمايتي إن كنتم صادقين؟
  • في الحقيقة نريد حمايتك ليس من أجلك أنت.
  • فمن أجل من إذن؟
  • من أجل أنسيموس.
  • أنسيموس! وهل لي أن أصدق هذا الهراء؟ فهل أنتم شرفاء حقًا حتى تحاولون بكل هذا الجهد والتخطيط الاستراتيجي المتكامل الحفاظ على حياة إنسانة من أجل شهيد مات أثناء خدمته؟

في هذه اللحظة ومع هذه الكلمات نظر الثلاثي لبعضهم البعض نظرات خاصة ثاقبة ليست مفهومة ولا واضحة، استغرقت دقيقة كاملة مرت على رواية وكأنها الدهور بعينها تؤدبها على قولها، أمسكت علا لسانها، بينما لم تقوَ ألماسة على البوح بشيء، فلملم الهيثم قائد المطارح الذي لم تعرفه بعد شجاعته وقال دفعة واحدة:

  • أنسيموس لم يمت!

لقد قالها أيضًا في نفس واحد، وفي دفعة واحدة، كما قالها يونان من قبل، وإن كانت كلماته نقيضًا لقول يونان، ففي كل الأحوال طاقتها أقل من تحمل هذه الأحداث، مبهجة كانت أم محزنة، استقبلت رواية هذه الكلمات بشعورين متغايرين، فإن كان الخبر صحيح فيا لها من غبطة لم تعش مثلها من قبل وهذا ما تتمناه، وإن كان هذيان هراء فإن هذا يعني أنه ينصب لها مصيدة جديدة، فحاولت أن تبدو أكثر ثقة وإن كانت ملامحها توحي بغير ذلك وقالت:

  • وما الذي يجعلني أصدقك؟ وإن كان بالفعل أنسيموس.

لم تستطع إتمام الجملة، غلبتها الدموع، ولا تعلم أي دموع تكون، فتابعت بمشقة:

  • إن كان أنسيموس هكذا حسب قولك، فأين يكون الآن؟

فقالت علا بأسف بالغ:

  • اعذريني، فلا أستطيع أن أفضي لك بشيء مثل هذا، ولكن يجب عليك الثقة بنا.
  • إن لم تكونوا أنتم من قبض على رفاقي في مصر، فمن المتسبب إذن في هذه المكيدة المخزية؟
  • إنه جهاز النسور.
  • ومن الذي أعلم الجهاز بأمرنا هذا، ألستم أنتم؟
  • بكل تأكيد لا، فنحن كالقبة لم نعلم بأمركم هذا إلا من خلال الجهاز الذي علم عن طريق اللجان الإلكترونية لمراقبة مشايخ الأزهر والدعاة، من خلال الميل الذي أرسله أنس لأحد مشايخ الأزهر يحكي فيه عنكم وعن نيتكم في إشهار إسلامكم.

ثم تابعت بجدية:

  • ليس لدي تعليمات بالشرح لك أكثر من هذا، لكن يجب عليك الخلود للنوم، فغدًا يوم هام لك للغاية.

وفي غضون ساعة واحدة كانت أوامر الطوارئ التي أصدرتها الهيثم البكر لمجموعات الهياثم الكبرى والصغرى والوسطى وعش الصقور وجزئيات المكان وكليات الزمان نفذت وطبقت برمتها لتأمين زنجبار برًا وبحرًا وجوًا بالتنسيق الحكومي والفردي مع مكاتب تنزانيا المستترة.

                                               ***

في السادسة صباحًا أطرقت الهيثم البكر باب الغرفة التي مكثت فيها رواية وألماسة ليلة أمس، فوجدت رواية تفترش سجادة الصلاة بينما تخفي وجهها بين كفيها متضرعة إلى الله بالدعاء بصوت جهور باكي، فدنت منها واحتضنتها من الخلف، ثم قالت بنبرة حنونة:

  • يعلم الله كم أشتاق لك يا صغيرتي.
  • وأنا أشتاق لك أكثر، فعلي الرغم من تحفظي عليك لأفعالك الغريبة والمريبة، لديَّ بعض الاطمئنان أيضًا نحوك.
  • عن قريب سوف تعلمين الحقيقة كاملة ليطمئن قلبك.
  • كيف حال أمي، أهي بخير؟ على قيد الحياة؟
  • لا تقلقي عليها فما زالت حية تُرزق، لقد استطعنا من خلال التكنولوجيا الحديثة أن نصطنع نبرة صوتك، فألفنا لها الحكايات، واختلقنا أمورًا ما أنزل الله بها من سلطان حتى اقتنعت، ولكن كما تعلمي يا عزيزتي قلب الأم دليلها الصادق، فمن العسير الكذب عليها كلية.
  • وأنسيموس، أهو حي حقًا؟
  • المهندس ليس حيًا فقط، وإنما هو في أحسن حال، فلعلكما تلتقيان قريبًا، هيا بنا الآن، فلدينا لقاء هام.

أبحر الثلاثة في اتجاههم للموقع الآمن الذي أعدته مجموعة المثلث العشري، جزيرة السجناء (بريزون أيلاند)، إحدى جزر زنجبار الصغيرة وأعجبها وأجملها، كان في استقبالهم شخص ما، جسده قوي فارع بلا ترهل ولا استرخاء، ملامحه هادئة ساكنة، الضوء يخبو من عينيه، فبمجرد الاقتراب منه، تقدمت الهيثم البكر بالمصافحة:

  • حمدًا لله على سلامتك.
  • الله يسلمك يا علا.

ثم تقدمت ألماسة وقد تبسمت قليلًا:

  • اشتقنا لك أيها الصاقر، ألا أراك إلا في المصائب فقط.
  • وأنا أظن أنك تفتعلين المصائب حتى تقابليني.

وضحكوا جميعًا ما عدا رواية التي لم يعد لديها ما يضحكها، فلما رآها الصاقر هكذا ألقى لكل منهما نظرة حملت مبتغاه، فاستدركوا مقصده، فانسحب الجميع من موضعهم سوى رواية التي أخذها في جولة قصيرة حول الشاطئ إلى أن استقر بها بعيدًا عن السياح الإيطاليين المكتظين حولهم يصيحون ويتضاحكون، توقف فجأة فرمها بسهم ثاقب سقط مباشرة في قرتها، فارتبكت، فأخذ يتجول بين أعضائها في محاولة منه لقراءة لغة جسدها، ثم وجه رأسه بعيدًا في اتجاه البحر، وقال:

  • أعلم أن لديك الكثير من الأسئلة الحائرة، تبحثين لها عن أجوبة، وأنا هنا مجيبك، فلك ما تشائين.
  • من أنتم وماذا تريدون؟
  • نحن نعمل لخدمتك، ولخدمة أنسيموس.
  • أين هو؟
  • هو حي يتجول في بلاد الله الفسيحة، اصبري فلكل وقت أذانه.
  • هل كل من يسلم أو يتنصر في بلدنا تبذلوا قصارى جهدكم لحمياته؟
  • بالطبع لا.
  • فلمَ أنا وأنسيموس؟
  • لأن لدينا مصلحة قوية، أقوى من أي شيء، منفعة من أجل مصرنا، وللعرب جميعًا.
  • من أجل مصر والعرب أم من أجل حكامهم وقيادتهم؟
  • القيادات والحكام ترحل عاجلًا أم آجلًا، أما الدول والبلدان فباقية خالدة، وما نفعله هذا من أجل كل الأديان، ومن أجل الإنسانية بأسرها.
  • وما الذي يدفعني لتصديقك؟
  • لا شيء.
  • أين أنس وقصة وبقية الرفاق؟
  • لا تقلقي عليهم، فنحن نتابع أمرهم بكل جدية.
  • ما الذي دفعكم لإخباري بالحقيقة في هذا التوقيت؟
  • هذه الورقة التي عثرتِ عليها، ليست من جانبنا، وهذا يعني أن هناك طرفًا آخر يشاركنا الأمر، وهذه كارثة كانت غير واردة ولا محتملة، ولم نستطع أن نستنتج الرسالة التي يبتغي إيصالها، فمن أين حصلتِ على هذه الصابونة؟
  • جلبت العديد من هذا الصابون حينما كنت بماردين.
  • ألا تتذكرين كيف حصلتِ على هذه الصابونة بعينها؟
  • اعذرني، فلا أتذكر أي شيء على الإطلاق بخصوص هذه الصابونة.
  • إذ تذكرتِ أي تفصيلة كبيرة كانت أو صغيرة، فأرجو أنك تخبريني على الفور.
  • لماذا ألماسة بالتحديد التي بعثتها إليّ في ماردين بالرغم من صغر سنها، ولماذا العم مرجان هنا في زنجبار بالرغم من كبر سنه، ولماذا إيمان من قبل ذلك؟
  • أنت إنسانة مثقفة للغاية، تحولك من دين لآخر في حد ذاته لا بد أن ينبع عن قراءة كثيفة وفكر عميق، هذا بالإضافة لكل الدلالات، أنك فضولية ودائمًا تسألين في كل شيء، فلم نجد أفضل من ألماسة والعم مرجان للتعامل معك لثقافتهما وثقتنا بهما.
  • وكيف عرفتم بهذه التفاصيل الشخصية للغاية؟
  • لأنك تكتفين بالدبلة فقط التي أهداها لك أنسيموس، ولا تلبسي خواتم أخرى.
  • نعم! وما دخل الخواتم في هذا الأمر؟
  • الأنثى التي ترفض لبس الخواتم وتكتفي بالدبلة فقط هي في الغالب شخصية نشطة غير نمطية، تبغض المظاهر والنفاق، تحب التجديد، تميل للانعزال قليلًا وإن كانت اجتماعية، تُتهم في أحيان كثيرة بأنها مغرورة، ولكنها متواضعة جدًا، تميل لقراءة الكتب أو المجلات أو سماع فيلم وثائقي على حفلة زفاف أو خطوبة أو أي حفلة صاخبة تتطلب المظاهر.
  • لا إله إلا الله، حتى الخواتم وحياتنا الشخصية تدخلتم فيها، والتي تلبس الخواتم، ما صفاتها بما أنكم خبراء لهذا الحد؟
  • تختلف التي تلبس الخواتم الفضة عن تلك التي تلبس الذهب عن تلك التي تحب الماس والأحجار الكريمة.
  • القبة، بصقاريها وصقورها وهياثمها، تركت تأمين البلد وأضحت جواهري؟
  • بعيدًا عن السخرية، هذا علم قائم بذاته لمعرفة الناس وتحديد شخصياتهم، فالتي تحب الذهب هي شخصية حادة، مشاعرها عفوية، حريصة على إبهار العيون، غيورة من بنات جنسها، والتي تحب الفضة هي تتمتع بهدوء وصفاء النفس وتهتم صاحبتها بالنواحي الفكرية وتنتابها مشاعر عدم الثقة أحيانا ولكن لا تتطول معها وتعود لحالتها الطبيعة في وقت قصير.
  • والتي تحب الألماس والأحجار الكريمة؟
  • إذا كان الخاتم رفيع أو متوسط الحجم متناسق مع حجم الأصبع وفي مكانه المناسب فهي شخصية خجولة متحفظة ذكية كتومة الأسرار، وإذا كان الخاتم كبير الحجم أم غريب الشكل فهي سيدة متناقضة متقلبة غير سوية قلقة تميل للمعاناة العاطفية.
  • ولكنني كنت في الثانوية العامة ألبس خاتمًا ذهبيًا، وفي الجامعة على ما أتذكر في السنة الأولى كنت ألبس آخر فضيًا؟
  • هذا صحيح، في حوزتنا صور لك وأنت تتزيني بهم، ولكن عندما كنت في الثانوية كنت تلبسينه في الخنصر، وهذا دليل على أنك كنتي تتحملين متاعبك ومتاعب غيرك باستسلام، وخصوصًا فيما يتعلق بالأسرة، برغم اعتقادك بأنك شخصية متميزة عن غيرك وتتمتعين بقدرات خاصة وهائلة لا أحد يملكها ولا يتفهمها.
  • هذا صحيح بالفعل، ولكن ما تفسيرك لوضعي في أولى جامعة لخاتم فضي في السبابة؟
  • يدل على سماحتك وتواضعك وسعة صدرك لدرجة تفريطك في حقوقك حتى لا تغضب الآخرين مهما كان من الأمر.
  • هذا صحيح، لقد كنت هكذا بالفعل.
  • لأنك كنت في حاجة للشعور بالأمان والثقة بالنفس، ولهذا عندما دخل أنسيموس حياتك واستقرت شخصيتك نزعتيه وفضلتِ عليه الدبلة فقط، وهذا ما يفسر ظاهرة عرض الزوجة المصرية على زوجها بيع مصوغاتها وشبكتها عند تعثره في أي أزمة مالية، فالكثير من العلماء الاجتماعين والباحثين يتوقفون في فهم هذا اللغز “الجدعنة”، فالزوجة لا تفعل هذا إلا أنها أحبت زوجها وشعرت معه بالراحة والأمان والاستقرار فلا حاجة لدفعات نفسية خارجية، مثل الذهب أو غيره.
  • وماذا عن باقي الأصابع؟
  • لبس الإبهام واكتسائه بالخواتم هو دليل على الثقة الزائدة والغرور، والخنصر عن الرقة والشفافية ولكن يعيبها أنها عنيدة لا تقبل نقض رأيها، وكلامها في الغالب يحمل صيغة الأمر دون أن تشعر، غير أنها فظة أحيانًا في التعامل مع الآخرين بالرغم أن قلبها ومشاعرها رقيقة للغاية، ولكنها لا تجيد التعامل.

أما الوسطى فيدل على العقلية الناضجة، تعشق المثالية في التصرف ولهذا تأنب ضميرها على أقل الأشياء، ولا تحب الشخص السطحي، وتأميل لجوهر الإنسان لا مظهره ولكنها تفرض آراءها على الآخرين دون شعور منها، كما يصعب توضيح الأمر لها في حينه.

  • ولكن إذا كانت تلبس المرأة في معظم أصابعها؟
  • هي للأسف لا تشعر بالأمان، وتحتاج لحماية خارجية ودفاعية نفسية ولهذا تتخذ من الخواتم تسترًا، وكأنها تكسبها دفاعات نفسية ضد الخارج، بالرغم في نفس الوقت تريد جذب الآخرين إليها لتشعر بالثقة، فهي شخصية غير سوية.

في تلك الأثناء كانوا على مقربة من علا، فصاح بها، فلما دنت منهم، سألها الصاقر مازحًا:

  • أرى أنك يا رفيقة قد اتخذت الحجاب فريضة لا عملًا؟

فنظرت لرواية وقالت:

  • الحمد لله، فهذا بفضل الله ثم بفضلها.

فصاحت رواية بدهشة:

  • أنا؟! مالي أنا ومال هذا؟
  • حينما كنت طفلة في السنوات الأولى من دراستي الابتدائية، كانت تحكي لي صديقاتي كم هن يسعدن حينما يعبثن بطرحات أمهاتهن ليقلدهن في صلاتهن، كنت أحن إلى هذه المشاغبات الطفولية كثيرًا، ولكن لا في بيتي طرح أو طراح، ولا هناك صلاة تقام، حتى أتى أحد أعياد ميلادي فتفاجأت بإحدى صديقاتي تهديني طرحة زعفرانية جميلة للغاية، فسعدت بها وكأنها أعظم هدية أهديت إياي، فلفلتها على رأسي كما أرى السيدات في الخارج وقد تزين بها، ثم توجهت لأمي – سمحاها الله ورحمها- فوبختني أشد التوبيخ وعنفتني بأقسى عنف، وعلمتني وقتئذ أن هذا الحجاب وتلك الملابس الفضفاضة هي معتقدات معقدة من إرث العبودية أجبرت على المرأة، فهي السبب الحقيقي وراء التخلف والركود في العالم العربي، كما أنها تعيق المرأة من التدرج في المناصب العليا في مصر وفي دخولها مجال الثقافة والفن، كما يُحرم على الإعلاميات وأمثالهن من ممارسة مهنتهن بالحجاب، ظلت هذه الفكرة الخاطئة عن الحجاب محفورة في عقلي إلى أن أجبرت على لباسه لتقمص شخصية إيمان الجارة، ولما عايشتك وجدت في قلبك إيمان حقيقي نقي، كنت أرى نظرات عينيك وهي تطفح بالتمني الخفي لارتداء هذا الحجاب، من كل هذا رق قلبي إلى معرفة الحقيقة، فأخذت أطلع على ديني الصحيح، وأتعلم منهاجه لأفصل بين الحلال وبين ما حرمه الله.

ثم انتزعت علا من على كتفيها وشاحها الزعفراني الملازم لها، واقتربت من رواية ووضعته حول رقبتها قائلة إياها:

  • من الآن هو لك.

ثم تعانقتا طويلًا، وبعد أن انفك تشابكهما قالت رواية بتهكم لا يخفي انفعالها الجلي:

  • أهل الثقافة والفن والسياسة والأمن وكل ممتهني هذه المسميات البراقة ينادون ليل نهار بضرورة التزام الحياد عند التعامل والنظر للمتبرجات، كما يجب تغير نظرة المجتمع الظالمة لغير المحجبات، فهن نسوة عادية شريفات لهن حقوق وواجبات، ومع أنه إذا أرادات فتاة محجبة الالتحاق بأحد المناصب أو الركوب في موجة الثقافة وصناعة الفن نظروا إليها بنظرة ريبة ونبذوها، فهي كما يستقر في معتقدهم جاهلة معقدة إن لم يحسبوها في غالبية الوقت إرهابية متخلفة، فمن جانبهم، الفن والعلم والجمال والحضارة والحب لهؤلاء الغير متحجبات، بينما المحجبات ما لهن إلا الزواج وتربية الأطفال وبعض الوظائف البيروقراطية العادية، وهذا هو حال مجتمعنا العربي، مغصوب الثقافة والعلم، وهو ما أنتج لنا نخبة أمنية وفنية وثقافية متعفنة تدعو للحرية التعبيرية وهي أول من يمارس الديكتاتورية الفكرية.

كانوا في تلك اللحظة على مقربة من محمية السلاحف المعمرة، فقال الصاقر محاولًا الخروج من تلك الحالة التي انتابتهما:

  • ما رأيكن في إلقاء نظرة على تلك السلاحف؟

أجابت رواية على مضض:

  • لا بأس، ولكن هناك شيء يروداني، كيف هذه الجزيرة بمبانيها الجميلة، وبموقعها المتميز، والأشجار المحيطة الخلابة والماء الجذابة كانت سجن! فلو كان هذا المعتقل في مصر، لكان السجن أحب للمصريين من منازلهم وزوجاتهم وأبنائهم.

ضحك الصاقر ملء شدقيه من هذه الدعابة الساخرة وقال:

  • هذه الجزيرة أعدت بالفعل كسجن شامل لجميع سجناء زنجبار، ولكن أراد القدر بشيء آخر، فإذ تجتاح البلاد نوبة ملاريا شديدة، فتحول السجن إلى معزل للمرضى، ولم يستخدم إلا في أحداث 1964م.
  • أهي ثورة أم انقلاب سيدي الصاقر؟!
  • هاتان الكلمتان في غاية الخطورة والحساسية للمصريين في هذه الأيام، من الأفضل ألا نتلفظ بأي منهما، فكلاهما أحداث عزيزتي.

نظر كل منهما للآخر في محاولة استنتاج ما يدور بالداخل إلى أن هرب الصاقر من عينيها الجريئة، الجريئة في الحق، إلى أن سألته مباشرة:

  • هل لعبد الناصر يد حقيقية في مذبحة زنجبار؟
  • لست سياسيًا ولم أكن من حاشية الناصر حتى أستطيع أن أجاوبك على هذا السؤال.

سكت قليلًا معتقدًا أنه نجى برده المتلون، ولكن عندما نظر إليها فإذ بها تحدق في عينيه غير معتبرة لما قاله، فأردف بعصبية:

  • مجزرة زنجبار كانت اختبارًا عصيبًا وعسيرًا لعبد الناصر؛ لأنه في ذلك الوقت كان يعد أبا الأفارقة إن لم يكن ربهم، وقتئذ كانت أفريقيا من أقصاها لأقصاها، باختلاف قبائلها وشعوبها ودولها، تقدس عبد الناصر، ولهذا عندما وقعت المحرقة باسم ثورة، كان عليه أن يختار بين أمرين، إما أن يتدخل عسكريًا لينهي هذه الكارثة التي قضت على أكثر من 20 ألف عربي مسلم، وكان يستطيع، وإما الاعتراف بما وقع كثورة شعبية أو كتلك التي قام بها هو.

سكت ولم يعد يستطيع الشرح أكثر من ذلك، فلما رأت علا علامات عدم الرضا تكسو وجه رواية وهي تعلم جيدًا صفاتها الفضولية أخذت تكمل ما بدأه الصاقر:

  • الاختيار الأول كان سيؤول كانحياز الزعيم الأول للعرب ضد الأفارقة، فتسقط صورته وقداسته، غير أنه من الممكن اتحاد الأفارقة فيما بينهم لإنهاء كل الوجود العربي داخل البلدان الأفريقية، ولهذا رأى أن الاعتراف بالثورة سيحجم هذه العنصرية، وهذا ما قد حدث بالفعل، فبعد أن بارك الثورة واطمأن الأفارقة بكسب ثقة الناصر ضغط الأخير بدوره على كرومي ونيريري لطرد أوكيليو بعد أن خاب ظنه فيه، والعمل على إنهاء هذه المجازر باستخدام الخطاب الديني وتذكيرهم بالإسلام كوحدة تجمعهم، وهو ما فعله كرومي بجدارة التلميذ النجيب، ثم بعد ذلك وجه نيريري وكرومي بتوحيد جبهتهما (تنجايقا وزنجبار) كدولة واحدة، برئاسة القسيس نيريري.
  • يا الله! خوفًا على صورته، ينصر الظالم على المظلوم؟ من أجل الزعامة والقداسة يقف مع القوي ضد الضعيف؟

فأجابها هذه المرة الصاقر بعقلانية سياسية بحتة:

  • هذه هي الدول والجيوش، تعقليها سياسيًا، كم عدد العرب الذين قتلوا في زنجبار، عشرون ألف؟ ثلاثون؟ خمسون ألف؟! ولكن كم من الأفارقة كان سيفقد حبهم وولاءهم؟ ملايين.
  • لعنة الله على السياسة والسياسيين، عجبًا لنا نحن الشعوب المسكينة، ليل نهار، شطرنا أصحاب حزب الكنبة يدعو للحكام بالتوفيق والسداد، والشطر الثاني المعارض الغاضب يسأل متى ستحرر بلادنا وعقولنا؟ متى سيعم العدل بيننا؟ فلا الأول مستجاب له، ولا للثاني رد عليه في الأساس، فلنؤذن في مالطة جميعًا.

اقترحت علا بالتعجل لضيق الوقت، دخلوا حاجز المحمية الطبيعية، عشرات السلاحف الضخمة الهائلة السائرة السائحة في الطرقات بين السياح وتحت الأشجار، سجل على ظهر كل واحدة منهن عمرها باللون الأزرق، فاقترب المرشد منهم يشرح لهم أعمار هذه الزواحف، ثم سار بهم إلى زاوية في آخر المحمية مازحًا:

  • هذا الجانب للسلاحف الخمس المعمرة، أعتقد أنه لديهم من الحكمة الكثير.

تبسم الصاقر وعلا قليلًا لهذه الكلمات، بينما أخذتها رواية في منحنى آخر فصاحت في علا:

  • أتتذكرين ما كتب في الورقة؟

لم تتمهل لتستمع لإجابتها، فتابعت بصوت متقطع تحاول عصر ذهنها: فإذا أردت معرفة الحقيقة فابحثي حيث تقيمي عن خمس حكماء تجاوزت أعمارهم مئات الأعوام، وخذيها من جوف أوسطهم عمرًا، فعامنا هذا هو عامه الواحد بعد الخمسمائة.

فنظر كل من الصاقر وعلا ناحية السلاحف الخمس حتى وقعت عيناهم على السلحفاة التي سجل عليها باللون الأزرق 501 فهرولت رواية في اتجاهها سريعًا وتبعتها علا ثم الصاقر، بينما المرشد في حالة ذهول من هذا التصرف المفاجئ، ولكن ليس بغريب، فما من سائح إلا ويحاول عبثًا لمس السلحفاة والتقليب في باطنها وصفع ظهرها، وإن كانت السلاحف تقابل أمثال هذه الأفعال الطفولية ببرود منقطع النظير، فإن كان لها التعبير عن هذا، لبثقت في وجوههم جميعًا، ولحمدت الله أنها لم تخلق بهذه التفاهة.

حاولت رواية من ناحية، والصاقر من ناحية أخرى، وعلا من جانب ثالث البحث في باطنية السلحفاة للعثور على أي شيء، حتى وقعت في يد رواية مادة بلاستيكية معلقة بشيء ما في الظهرية الباطنية، فانتشلتها بقوة، ثم أخذتها فمزقت الغلاف، وفضضت الورقة بسرعة فقرأت بتوجس رهيب:

“ألم تسألي نفسك يومًا لماذا أنسيموس ظهر كصديق لأخيك بعد وفاته فقط؟! ألا تعرفين ما هي علاقة أنسيموس بالفتاة التي وجدت مقتولة مع أخيك في وضع مخزٍ؟!”

انتزع الصاقر الورقة من بين يديها، وقرائها في عجالة، ولم ينبث ببنت شفة، في هذا الموقف العجيب والغريب، لا تتجرأ علا أو الصاقر على التفوه بشيء أو شرح مضمون الرسالة وما تشير إليه من بعيد أو قريب، فكل ما سيطر على العقول هو الرحيل، الرحيل فقط، فهناك أمر مريب وشيء خطير قريب منهم، بل يحاصرهم في عقل دارهم وحيثما ذهبوا، تفهمت رواية الموقف ولزمت الصمت لحين الاستقرار وعندها ستضح الأمور كما أوهمها الصاقر، يقومون في لحظة وضحاها بتأمينها لمقرهم الآمن بزنجبار، وبعد ثلاث ساعات متواصلة من النقاش والاتصالات السرية مع القبة، يأتي أمر شيخ الصقارين بالانتقال المؤقت لجزيرة توتي على وجه السرعة، ووضعت خطة محكمة من قبل الفريق بالاشتراك مع القبة، وإذ تتفعل في عشية وضحاها الخلايا النائمة التابعة للهياثم الصغرى طبقًا لأوامر الهياثم الكبرى في شرق أفريقيا وسواحلها، تسهيلًا للتنقل من زنجبار إلى جيبوتي عن طريق البحر الأحمر، ثم الزحف البري لجزيرة توتي الواقعة بنهر النيل وسط العاصمة خرطوم، مرورًا بإريتريا وجنوب السودان، حيث إنه لا توجد أجهزة أمنية أو عسكرية قوية كانت أو ضعيفة إلا ولها أوكارها وعيونها في هذه المنطقة بالغة الحساسية والأهمية من القرن الأفريقي، فهي ملعب الغد.

وهذه الجمهورية العربية المسلمة المسماة جيبوتي هي أصغر دولة في القارة السمراء، ولكن ينطبق عليها المثل الروسي القائل: صغير ولكن فعله كبير، فموقعها الجغرافي في القرن الأفريقي على الشاطئ الغربي لمضيق باب المندب جعلها كميناء كبير وهام للغاية، ولذا باتت جيبوتي العاصمة والدولة بجميع موانيها محط أنظار جميع الأقطاب العسكرية العالمية ليس لأهمية جيبوتي في ذاتها، وإنما لوقوعها على بعد 20 كليومترًا فقط من السواحل اليمنية، والتي تصنف من أهم معاقل الإرهاب في الشرق الأوسط، بل تعد المدخل الرئيس لشبه الجزيرة العربية، هذه الجمهورية الصغيرة المغمورة اسمًا وفعلًا في العالم العربي لها نظرية خاصة في أوضاعها الداخلية تختلف عن باقي البلدان، فترى الحياة الجيدة في الاستقرار التام، بدون نزاعات، أو انقلابات، أو فتن طائفية، وإن شابها حرب أهلية استمرت ما بين عامي 1990 و1994، كما أنه لا مانع لها في وجود حاميات عسكرية آسيوية أو أوربية أو أمريكية لتأمين تجارتهم وسفنهم في البحر الأحمر أو لأسباب سياسية ولوجستية أخرى غير معلنة ما داموا يدفعون، وتعلن بكل فخر وبكل صراحة أن اقتصادها قائم على أموال هذه الحاميات، فبها أكبر قاعدة فرنسية في العالم بأسره، وعلى أرضها تتربع القاعدة الأمريكية الوحيدة في أفريقيا (أفريكوم) والتي تدفع حاليًا إيجار 60 مليون دولار سنويًا، كما أنه تنشئ حاليًا القاعدة الصينية، بخلاف القاعدة اليابانية التي أنشئت في عام 2009، وكأن العالم النووي القوي المتصارع في الغرب والشرق اتخذ من هذه البلدة الصغيرة الضعيفة مسرحًا لعرض مظاهر قوته، وما تخبئه الأيام القادمة من دول عربية تنوي اجتياح القرن الأفريقي بالكامل سيتضح قريبًا.