على أخفض بقعة في القارة السوداء بأسرها بانخفاض 155م تحت مستوى سطح البحر، وعلى الحدود الجنوبية لمحافظة تاجرا، وقف الصاقر ورواية بصحبة فارح عين الفرديات الصحراوية في هذه البقعة، بعد أن رحل عنهم علا وألماسة، متطلعين الكتل البيضاء المترامية حولهما، والتي تخالطها الحمم السوداء الواضحة للعيان، فهم ببحيرة العسل التي تبعد 120 كم عن العاصمة جيبوتي، وهي أملح بحيرة في العالم على نقيض اسمها، والتي تبلغ مساحتها 54 كم مربعًا، بعد التجول السريع في المنظر البديع من حولهم، فلم تطالع أعينهم شمسًا أصفى من هذه، ولا سماء أزرق من تلك الملبدة بالغيوم في جمال عجيب وتعشيق فريد، بالإضافة لطبيعتها الجيولوجية الفريدة والساحرة لكونها فوهة البركان المركزي في جيبوتي، شرعا في السير برفقة مرشدهم الأعلم بهذه المدينة وأناسها، وخلال مسيرتهم قالت رواية بصوت جهور بعض الشيء:

  • سبحان الله، ما هذا الجمال الآخاذ لهذه الدولة الصغيرة المدهشة المتناقضة جوًا وموقعًا، الكثير في بلادنا العربية لا يعرف عن جيبوتي سوى اسمها، فكل معاملاتنا معها ما هي سوى رقم نكمل به القائمة الـ 22 للبلاد العربية، فما أصلها وما تاريخها؟

فقال فارح مجيبًا:

  • تاريخ جيبوتي والقرن الأفريقي عموما الذي يضم الرباعي (الصومال وإثيوبيا وجيبوتي وإريتريا) هو تاريخ طويل ومعقد للغاية ولكنه ما زال مرتبط بالجذور والأصل لحد كبير، فالمكون الرئيس لجيبوتي هما قوميتان كبريان ومهمتان للغاية، الأولى قومية العفر والثانية العيسى، وكلاهما يحوي العديد من القبائل.

ثم تابع في محاولة منه للمجاملة:

  • وما يذكره التاريخ أنكم أيها المصريين كان لكم تواصل قديم بهذا القرن، فأقدم رحلة بحرية مصرية لهذا البقعة من القارة كان في الألفية الثالثة قبل الميلاد في عهد موني الأول.

تدخل الصاقر معقبًا:

– هذا صحيح، ولكن العلاقات مع شبه الجزيرة العربية كانت أكثر تأثيرًا من العلاقات المصرية، فمنطقة القرن الأفريقي أو الحبشة في العموم هي عربية الأصل، فهؤلاء الناس هم عرب من قبلنا.

– ماذا تعني أنهم عرب؟

– العربية كلغة وأناس متوغلة في هذه المنطقة من قبل الإسلام بل من قبل الميلاد، حيث هاجرت إليها قبليتان عربيتان قحطانيتان من جنوب الجزيرة العربية هما حبشت وكونت دولة كاملة والتي تسمى بها المنطقة وهي بعينها الحبشة التي هاجر إليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأما القبيلة الثانية وهي قبيلة أجعز العربية الأصيلة، وإليها تنسب اللغة الأجزعية، وهي لغة التعبد في الكنيسة الحبشية مثل القبطية في الكنيسة المصرية، ولكن النطق الصحيح لها هي الأجزئية فبعض القبائل العربية مثل المهرة لا ينطقون العين كما ينطقها السعوديون.

فقالت رواية باستعجاب:

– هذا يعني ما كنا نسمعه في الأفلام المصرية قديمًا من التهكم على نطق أهل السودان حيث بدلًا من عبدو يقولون أبدو، صحيح؟

– بالفعل صحيح فهذه لغة أصيلة، لأن أهلنا في الشرق السوادني يتكلمون إحدى اللغات الأجزئية والتي انشق عنها الثلاث اللغات الحبشية؛ الأمهرية، اللغة الرسمية لإثيوبيا، واللغة التنجرية، واللغة التجرايتية والتي تتحدث بها قبائل البجا في شرق السودان وإريتريا.

– لقد شهدت ذات مرة في أحد البرامج أحد المستشرقين يدعي بأن القرآن يتضمن مفردات حبشية وليس عربيًا كما قال سبحانه تعالى في كتابه العزيز، ولكن العجيب أن محاوره الداعية الإسلامي العربي نفى بأنه يتضمن مفردات حبشية.

– هذا إن دل فيدل على جهلنا، لأن قليلًا من العرب غير الباحثين من يعرف أصل هذا التاريخ، فالقرآن يتضمن ألفاظًا حبشية، فالحبشية الأصل ما هي إلا إحدى اللغات العربية الأصيلة لأهل الجنوب والتي يتحدث بها الكثير من أهلنا في الجنوب اليمني والتي لا يعرف عنها الكثير من أهل الشمال.

فقالت رواية في محاولة للاستعارة من أرشيفها الثقافي:

  • أتذكر أن قرأت ذات مرة في إحدى المجلات الثقافية أن القومية العفرية مسلمة بالكامل وعددها أربعة مليون شخص يسكنون إريتريا وجيبوتي وإثيوبيا والذي يسمى بالمثلث العفري، كما أن لغتهم الشفوية مليئة بالعربية وما زالت مستخدمة، حتى أنه في الآونة الأخيرة جالياتهم في أوربا يعملون على تسجيلها كتابيًا باستخدام الحروف اللاتينية.

تابعها فارح مؤكدًا بلغته العربية الركيكة:

  • هذا صحيح سيدتي، ونحن الآن نسير في الأراضي التابعة للعفرية، فالعيسوية هم الصوماليون، أما العفر فهم العرب الذين نزحوا من آلاف السنين لهذه البقعة، كما يطلق عليهم الدناكل نسبة للملك دنكلي بن ملكان الذي حكم هذا المثلث العفري، إثيوبيا والصومال وجيبوتي، والتي سميت فيما بعد ببلاد الصومال الفرنسي.

فتعجبت رواية مستنكرة:

  • وما دخل فرنسا في جيبوتي؟!

فتولى الصاقر مجرى الحديث شارحًا:

  • هذا الجزء الأفريقي بعينه كان منسي عبر القرون، إلا عند الشروع والموافقة على حفر قناة السويس المصرية، والتي افتتحت عام 1886م، فبدأت فرنسا في التفكير والاهتمام به لحماية القناة المملوكة لها من أي قرصنة، ولتمارس دور المراقب عن بعد، وما شجعها على ذلك هو نجاح الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م، وبالفعل بعد اتفاقية سايكس بيكو استطاعت احتلال هذا الجزء الذي اعتبرته مستعمرتها في القرن الأفريقي تحت مسمي بلاد الصومال الفرنسي، وفي عام 1967م غيرت اسمه رسميًا للإقليم الفرنسي للعفر والعيسى، ليس حبًا في العفر ولا تحيزًا للعيسى، ولكن أحست بوهن موقفها وضعفها أمام الحركات التحررية الأفريقية فخططت لزرع فتنة عرقية في صفوفهم، بالتذكير أنهم قوميتان مختلفتان وقبيلتان منفصلتان، وليسوا أمة واحدة كما يتوهمون، وإن كان الجميع مسلمين، يربطهم رب واحد ونبي واحد، وللأسف تحقق المراد، إلا أن الاحتلال انتهى فيما بعد.

في هذا الأثناء كانوا على مقربة من واجهتهم، أرض صحراء، صخرية، قاحلة، جدباء، جرداء لا زرع فيها ولا ماء، تشع الأرض حممًا من باطنها، تهطل السماء كتل من نيرانها تطلقها الشمس بأشعتها المتوهجة، لا ترى رواية أمامها سوى صخور متبعثرة ورمال حارقة، وأحجار تراصت فوق بعضها البعض صانعة هياكل حجارية لا يزيد ارتفاعها عن مترين، وتتباعد تلك الهياكل على مسافات شاسعة، فبادر فارح مرشدًا إياهم:

  • لقد وصلنا قرية مؤمنة، سنمكث هنا لمنتصف الليل حتى يحين موعد مغادرتنا، اليوم تزور هذه القرية الهالكة جمعية الرحمة العالمية الكويتية لتقديم الإغاثة والمعونة لهؤلاء المساكين، سوف نرتدي هذا الوشاح الخاص بهم، كما أننا اتفقنا مع رئيس المنظمة لاعتباركما ضمن الفريق التطوعي.

اقتربت رواية بخطوات مثقلة من البيوت التي ليست ببيوت، وشرعت تتطلع الأفق لترى حياة هؤلاء الناس التي ليست بحياة، فما وجدت سوى عشش ضيقة خانقة ملتهبة حجرية تتخللها الفتحات الواسعة، فلا شمس تمنع، ولا هواء تصد، وسقفها ليس مكتمل سوى النصف أو الربع، وهو عبارة عن مخالفات، كراكيب نجارة، حدادة، أو خشاش الأرض والبوص، تشبه العشش البيتية في الأرياف المصرية التي تستخدم في تربية الدواجن، بل، والله، عشش دواجنا لأفضل، ولأفضل ألف مرة من تلك.

تعثرت خطواتهما كثيرًا في هذه الأرض المتوقدة البركانية الجافة الحارقة الصخرية، فأصغر صخرة أثقل من أكبر طفل، والأطفال من حولهما يركضون ذهابًا وإيابًا حفاة عراة وقد اكتسوا جلدًا على عظم! توقفت رواية فجأة أمام أحد الكهوف واستدارت للداخل بينما مضى الصاقر، تسللت رواية للداخل لما لمحته عندما أبصرت هذا الطفل عاري الصدر، الذي لم يتعدى العاشرة بعد، حيث يتربع مسندا ظهره على الجدار الداخلي المُسعّر نارًا، وبين يديه الدقيقتين رضيعة ما زالت في حولها الأول أو الثاني، وفي كل هذا الوضع البائس يبتسم، يبتسم ابتسامة عذبة جميلة نقية، وترد عليه الرضيعة ببسمة رائقة أجمل وأصفى، وكلاهما يستقبلانها ببشاشة سلسة مأنوسة هي الأحلى في كهفهم المتواضع بل المتهالك، فدنت منهما، وقد ضحكت لهما وأضحكتهم متناسية المكان والظروف والزمن وكل ما يحيل ويعكر هذا الود الحقيقي وقالت بعربية:

  • ابتسامتك جميلة، أختك هذه؟

فأجابها الولد بعد برهة قليلة، حاول فيها فهم قولها، بفرنسية جيدة:

  • اعذريني سيدتي، أفهم العربية إلى حد ما، ولكن لا أستطيع التحدث بها، على كل حال إنها أختي، لقد ذهبت أمي وأخي الأصغر لجلب وإحضار المواد الغذائية التي أتت اليوم، وبقيت أنا أرعى الصغيرة.

فتعجبت لهذا الترابط الأسري القوي والتنسيق الجماعي المتين بينهم في بيئة لا تمت للتنسيق الأدمي في شيء، وقالت وقد تحسرت في نفسها على ضياع العربية:

  • لماذا لا تتكلم العربية وأنت مسلم وعربي؟
  • سيدتي الشابة، نحن قوم احتلت أرضنا وديننا ولغتنا وثقافاتنا ولم ننل حريتنا إلا في عام 1977م، فما بقي وخلد في موروثنا الشعبي هو اللغة الفرنسية، فمن تعلم العربية بعد ذلك ممن درس بالمدارس العربية وجامعاتها، ولا أنا ولا والدي ولا جدي ذهبنا للمدارس، وإنما ولدنا تحت هذا اللهيب وعشنا في جوف هذه النيران، ولكن أمي تقول إن الله سيجزينا في الآخرة الجنة ثمنًا للصبر والتحمل والعبادة الصالحة.

تلفظت رواية والدموع تنهمر من بين جفونها:

  • إن لم تذهبوا أنتم للجنة، فمن الذاهب إذن، إن لم تستحقوها أنتم فمن المستحق؟!

تقهقرت للخلف مبتعدة عن الطفل وأخته، تنظر إليهما في شفقة وحب وحنان خالطتهم الدهشة والمواساة، فاصطدمت بالصاقر عند خروجها، وقد لاحظت عليه التأثر الشديد والاستياء العام فبادرها قائلًا:

  • ما هذه الحياة، سفرت وتجولت كثيرًا، رحلت بين المدن وقراها أكثر مما عشت أنت من أيام، أم هذا الشيء لم أره من قبل!

ظل ساكنًا قليلًا، قبل أن يستطرد وهو يشير بأصبعه في اتجاه ما:

  • صعب للغاية هذا، لم أتوقعه أبدًا، أترين هذا الكهف الممتد؟ هو دار أيتام هذه القرية، به ما يربو على ثلاثمائة طفل يعمل في خدمتهم رجل عجوز ضرير! التقيت هناك أطفالًا مبيعة، لا أصدق هذا، كيف لأم أن تبيع أبنائها، كيف تجرأت على فعل هذا؟ أين كان العقل والقلب آنذاك؟ فهل باعتهم لتعيش هي أم ليعشوا هم؟! أخرجت مائة دولار وأعطيتها لأحدهم، فقلبها بين يديه ثم اعتصرها، وأثناء طريقها للفم نظر حوله للطفلين المراقبين له، فجزئها بالثلث ولقمها الثلاثة بفرح وسرور! تفاجأت في البدء من أكلها ظنًا منهم أنها حلوى لا يعرفونها أو ورقة أشجار، فكيف لهم أن يدركوا حقيقة الدولار وهم لا يرون الأكل حتى يرون المال، ولكن عندما تأملت تقسميه لأصدقائه لم أجد ما أقوله، أو حتى أدركه، فهم أعظم شأنًا من أن يفهمهم أمثالنا.

صمت لحظات يحاول ربط جأشه ثم قال باستياء وتبرم:

  • على بعد أميال ضئيلة من هنا، تجلب القاعدة الأمريكية، التي يبلغ عدد جنودها ألفين ونصفًا، الطعام طازجًا من واشنطن يوميًا على متن طائرات خاصة، تكلفة الفطار والغداء والعشاء والمشروبات ليوم واحد فقط تكفي لإطعام جيبوتي شهرًا كاملًا التي لم يتجاوز عدد سكانها 900 ألف مواطن.

استمعت رواية لكلام الصاقر باهتمام وتحسر شديد ولكن في جوفها تحلق كلمات لا تستطيع كتمانها فطفحت بها:

  • ما تقوله حقيقة يا سيادة الصاقر المعظم، ولكن أعذرني فلا أمريكا ولا أي دولة أوربية يستوجب عليها أن تساعد هؤلاء، فإن ساعدت فخيرًا، وإن لم تفعل فلا حرج عليها، ولكن نحن العرب يلزمنا هذا، شئنا أم أبينا، فهذا واجب بل فرض علينا، فأين أنتم من هذا؟

شعر ببعض الضيق والغضب من نظرة الاتهام الموجهة إليه:

  • لماذا تحدثيني وكأني حاكم أو قائد أو رجل أعمال، فأنا أمني ولست سياسيًا!

فقالت رواية بلا مبالاة:

  • أمني أو سياسي أو مواطن عادي أو غير عادي هذا كله لا يهم، تالله لا أخاف على هؤلاء المستضعفين، الموتى الأحياء، الأحياء الموتى، فلهم رب كريم، أما هلعي وارتعابي وجزعي علينا نحن، فماذا سنقول يوم القيامة ونحن بين يدي الجبار القدير حيث يسألنا عنهم؟ عن أحوالهم؟ أ كانت ترضينا؟ أ نحتملها؟ ماذا فعلنا من أجلهم؟