مع غروب الشمس الأفريقية عن قرية مؤمنة تجلس رواية على إحدى الصخور العملاقة تتصفح أحد المخطوطات الذي أهداه لها العم مرجان في مقابلة الوداع، وبينما هي كذلك أقبلت عليها ألماسة وعلا بمجرد وصولهم، ومعهم الصاقر والتف الجميع حولها، فبادر الصاقر ليبلغها:

–       بعد ساعتين يا رواية سوف نتوجه للروما الجديدة.

–       أتقصد أسمرة، piccolla roma روما الصغيرة، كما يسميها الإيطاليون؟

–       بالفعل هي بعينها، أسمرة عاصمة إريتريا.

فقالت رواية بشوق وقد أطلقت العنان بعيدًا وكأنها تتخيلها:

– بلد كم تمنى العالم أجمع زياراتها، بلد أفضل جيش مقاتل في العالم بأسره، أعتقد أنني محظوظة بالرحلة هذه، وإن لم أكن أعلم بمصيري المجهول الذي في أيديكم.

– لا تقلقي، انظري هناك، من القادم؟

فتوجهت أنظار الجميع حيث يشير بعينيه، فهرولت ألماسة في ناحيته صائحة:

  • يا عم، يا عم، اشتقت إليك.

أما علا فدمعت عينيها اشتياقا وعشقًا، فصاحت رواية بذهول:

  • هذا هو مؤمن؟

ثم رمقت علا بنظرة والتفت للصاقر:

  • هل هناك علاقة حقيقية بين علا ومؤمن غير تلك المزيفة التي زعموها علي؟

فأومأ الصاقر رأسه بالإيجاب، ووصل مؤمن ناحيتهم فاحتضن علا وقد تعلقت وتشبثت به كثيرًا، بينما تبكي قائلة:

  • الشيء الوحيد الذي يضعفني في الحياة هو الاشتياق، ولك الكثير منه يا علاء الدين، بل كله لك.

فذهلت رواية وصرخت بفم ثاغر وحاجبين مرفوعين:

  • يا إلهي! إيمان علا، ومؤمن علاء!

فضحك الجميع لذهول رواية فضحكت معهم قائلة:

  • الحمد لله أن ألماسة هي الوحيدة التي ما زالت باسمها.

فتعالت أصواتهم ضحكًا وضجيجًا وقال علاء ساخرًا:

  • صحيح، الحمد لله أن ألماسة هي سماء!

لم تعثر رواية في قاموس تعجبها على ما تقوله، فاستمعت للصاقر وعلا وهما يشرحان كيف جندوا علاء وسماء للتعاون معهم في خطتهم، فأدركت رواية أنها في أيدي ليس من السهل توقع أفعالها، بل أيقنت أيضًا أنها يجب عليها ترك مخيلتها الواسعة عن بناء الخيالات التي تخمنها وتنسجها لنفسها وما تتخيله لمصيرها وما تكهن به لقدر أنسيموس، فلتترك الأمر لحينه، قاطع تفكير رواية قول الصاقر:

  • بما أنه من العسير عبور الحدود البرية الإريترية للوضع الملتهب الآن بينها وبين إثيوبيا وجيبوتي، ليس أمامنا إلا الإبحار من ميناء تاجورا الجيبوتي إلى ميناء مصوع الإريتري ومن هناك نتأخذ القطار الجبلي العجيب لروما الإفريقية.

***

في أعماق البحر الأحمر، وسط الأمواج المتلاطمة العاتية، وفي السفينة الخاصة للمثلث العشري والمُعدة على أعلى مستوى من التقنية الأمنية، تدندن رواية بصوت مسموع:

أعيدوني لأحلامي

أعيدوني لأحلامي
ليوم صاغ أفكاري
وأبعاد المسافات
أعيدوني
لشمس نسقت في القلب
بعضًا من مسراتي
أعيدوني
لنبع أنهل الصحراء
والصحراء باتت رهن ألواني
أعيدوني
فليت البعد طيف من لقاءاتي
غريب الناي أعزف لحن
آهاتي
أبث الوجد من أعلى سماواتي
وفوق مُساحة رعناء
تلهمني جراحاتي
غريب الناي أعزف لحن
آهاتي
إرتيريا.
إرتيريا. يا زمردة الهويات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كان علاء فخورًا برواية وثقافتها وبراءتها، يراقبها وهي تغني وتلحن القصيدة عن كثب، معجبًا وفرحًا، ففاجأها قائلًا:

– من أين لك معرفة العفرية شريفة العلوي؟

– هذه الشاعرة الإريترية القوية هي سبب حبي واهتمامي لمعرفة هذا الشعب المشتت والمنسي في الذاكرة العربية.

تدخل الصاقر سائلًا:

  • كيف تعرفتِ عليها وعلى شعرها؟

ضحكت رواية هُزاة وقالت بكيدية:

  • يا لها من مفارقة عجيبة كلما أتذكر أول عهدي بمعرفتها، في أثناء قطعكم للإنترنت، يوم 29 يناير، اليوم التالي لجمعة الغضب التي حاربتمونا فيها وقتلتم أجمل من فينا بفتحكم لأفواه النيران لمواجهتنا وهلاكنا، نشرت شريفة قصيدتها مصر الحبيبة، وأعلنت تضامنها مع الثورة المصرية، في حين أنتم يا حراس السلطة كنتم تدسونا بمدرعاتكم وتسحقوننا بجلداتكم، أفحكم الله.
  • لماذا تتهميننا بقتل الثوار؟ فليس لنا أي يد أو تدبير فيما حدث.
  • صحيح يا سيادة الصاقر المعظم ليس لكم أي دخل في هذا، أمي هي الجانية! أمي هي القاتلة. أمي هي كلبة السلطة.

شعر الصاقر بضيق يجتاح صدره من تهكم رواية، ولكن كتم غيظه، فما يستقر في يقينه وعقيدة رفاقه أن الجهاز هو وحده المسئول، أما رواية فواصلت بانفعال وحماس:

  • إن كنتم حقًا لستم بجناة، وأنتم الجهاز الأعظم والأعلم الذي لا يُعلم ولا يُعَلم عليه في مصر! فلماذا إذن لم تمنعوا وقوع أحداث جمعة الغضب؟ لماذا لم يتم توقيف موقعة الجمل؟ لماذا لم تحرموا وتعطلوا مجزرة رابعة؟ والاتحادية؟ أين كنتم؟ على مرض أم على سفر؟

نظر كل من علا والصاقر لبعضهم البعض وأثروا السكوت، فأي مبرر، وأي كلمات تستطيع محو هذا العار، وتبرئة هذه الجريمة الدنيئة، يا لها من مذلة رزيلة وصمتهم بالنقيصة والخزي الأبدي! أما علاء فقد توقدت حميته بتذكره شهداء الثورة، شهداء الكفاح، شهداء الشباب، شهدائنا الذين ماتوا من أجل حرية البلد، فأتى للبلد من امتلك كامل حريته في ضياع حقوقهم وتشويه ذكراهم، وقال منفعلًا:

  • ما رأيت في حياتي قط كلمات تصف حالنا وحال الجهاز الديكتاتوري كما وصفتهما سماء بعد أن اصطحبتها في إحدى المرات للجهاز حيث كنا نعمل.

نظر الجميع لسماء أو ألماسة، أما علاء فتابع بإقدام حماسي:

  • وجدها صلاح مكتوبة في يومياتها ذات يوم، فأتى لي بها مذعورًا.

تطلع للمتطلعين إليه في شغف وتوجس مرتقب قبل أن يسرد عليهم:

  • كتبت بلغتها التهكمية: لقد خلق الله لكل شعبه جنة ونار، واصطفى الشعب المصري فخلق له جنة ونارين، جنة أظنها بعيدة المنال، وإحدى النارين أراها تتلهف لقاءنا، أتخيلها وهي مكتظة بنا جراء تساقطنا فيها واحد يلو الآخر، فنملئها، فتتمدد جدرانها وتكاد أن تُصاب بالغثيان، فتقذفنا خارجها، هذا هو ظني بحالنا مع نار الأخرة، أخاب الله ظني فهو التواب الرحيم، فإننا بدون شك نؤمن برحمته ومغفرته، ونرجوه العفو والنجاة، ولكن لا أظن للحظة واحدة أننا ناجون من نار الدنيا، ذات الوجهين، فهي الجحيم المشتعل لأكثر من 95% منا، وهي أيضًا الروضة المُنعمة للآخرين، قاطني طبقة السوبرمصريين، الذين لا ينبغي علينا جهلهم أو تهميشهم، فيجب أن تكون لهم الأولوية، كما تقتضي قوانين الديموقراطية المصرية التي شعارها، الأقلية أولًا. الأغنية أولًا.

جحيمنا الخاص هذا ليس غذاؤه حطب، ولا نفاثه دخان، وإنما يتغذى على الأرواح والأجساد وينفث بالدماء، فكلما التهم بين أذرعه أحدنا، احمرت ألسنة لهيبه، وتطايرت الدماء تسبح في الفضاء راكبة السحاب تجول في كل الأنحاء، ممطرة على المصريين الجرعة المعتادة من الخوف والانكسار، وجحيمنا هذا يتجسد في ظاهره بأربعة جدران، يقام على مساحة فدان، يتكون من عشرات الأدوار، مئات الممرات، في جوفه يحوى على آلاف الأسرار، به عشرات المكاتب للتحقيقات البدنية والنفسية مزودة بأحدث النظم العالمية.

ومن أهم ما يحوي عليه جحيمنا، مكتبة، عدد ورقاتها تجاوز المليارات، تندرج تحت ملفات مرقمة، بحيث كل رقم يمثل رأس، نعم، كل رقم برأس، فأهالينا في الأرياف المصرية الأصيلة يطلقون على الماشية رأس فإذا كان يملك عشر مواشي قال لدي عشر رؤوس، وهكذا المصريون بالنسبة لجحيمهم ما هم إلا مواشي.

ومن باب الأمانة، فهي مكتبة أصيلة، فما من مكتبة في العالم إلا وقد جاء عليها وقت واحرقت أو سرقت، فضاع منها مئات الكتب، أما مكتبتنا – حفظها الله – فلا ينقصها ملف لحي أو لميت، فهي بنت أصول لا تتخلى عن إحدى مواشيها، بها أمهات كتب سُطر على أوراقها سير ذاتية تصل لمئات الأجداد، حتى أظن أنها الوحيدة التي قد تكون على معرفة بمن هو فرعون موسى.

نالت كلماتها منهم، فأصابتهم الدهشة العارمة لهذا الوصف الأدبي الدقيق، والأهم، أنه وصف صحيح صادق، وإن كان الجميع يحاول تجنبه أو غض الطرف عنه، إلا أنه حقيقة نعيشها وتعيش بداخلنا، وبينما الكل يطالع البحر بأمواجه العاتية، رمت رواية سؤالًا عابرًا تعقيبًا على كلمات سماء المنطوقة بلسان علاء:

  • ولكن من هم مسؤولوها؟ من هم حراسها؟ أليس لنار الآخرة ملائكة حارسة؟ فمن هم ملائكة نارنا؟

ثم ألقت بنظرة عابرة في اتجاه الصاقر وعلا، وأخرى لسماء التي ما فكرت طويلًا قبل أن تأخذ بزمام الإجابة للسخرية وعيناها تراقب الأمواج المتلاطمة، تسبح في الأفق البعيد:

  • حقًا يا روايتي، لكل نار ملائكة حارسة، ولكن جحيمنا فحراسه ذوو نوع وصفات خاصة، فلهم من الصفات ما لا يعد، فما من أنس أو جن أو شيطان، بصفة خاصة، إلا وقد ورثوا منه، ورضعوا من نهديه، وتعلموا على يديه، فصنعوا مشروبًا رطبًا للتناول صباحًا ومساءًا، وعند الضرورة، وهي اللحظة المتمثلة في استيقاظ الضمير أو مجرد نبضه، وحديثًا أنتجت كوكتيلًا مميزًا بعض الشيء، فهو مستخلص من لعاب العقرب والأفاعي ودهن الخنزير، من أهم نتائجه بث سموم خاصة، لا ترياق لها، لإيقاف الضمير عن نبضه لمدى الحياة، وليجعله غير قابل للإحياء مجددًا، وأظن أن أكثر حراس جحيمنا قد تجرعته بشهية.

صاح الصاقر متعصبًا غضبًا فلم يعد له صبرًا:

  • يا إلهي! أليس منكم من يعلمهم ويفهمهم أننا صقور القبة، ولسنا نسورًا أو سيوف الدولة، ولا نمد لهم بأي صلة هؤلاء القردة؟!

فأجابته علا خائبة:

  • لا عليك، أتركهم للزمن، ولا محال سيعرفون ما لنا وما علينا، وما لغيرنا وما عليه، فنحن لسنا ملائكة ولا شياطين.

فقال علاء في محاولة لملاطفة الجو بعد هذا الفوران والحدة:

  • ولكن الحق أقول، لم يكن ربك بظلام للعبيد، فالشعب المصري الذي يخرج على بكرة أبيه في انتفاضة لإطفاء لهيب ناره الخاصة، وهدم أسوارها، وحرق مكتبتها، هو ذات الشعب الذي يخرج في الذكرى الأولى لانتفاضته للمطالبة بعودتها، وإعلانه مساندتها، والتزامه بكل ما تقضي به، ولا حاجة للاندهاش كثيرًا، فإنها الكيمياء الخاصة بشعبنا العظيم، سر تركيبها في علم الغيب، إنها خلطة سحرية، نزلت علينا كلعنة مجونية، لا نعلم تركيبها أو حتى اسمها، فلقد خرج من هذا الشعب قديمًا من قال أنا ربكم الأعلى، واليوم من نفس الشعب هناك من يخرج طائفًا بجحيمه مناديًا لملكها:

(لبيك لبيك، لبيك وسعديك، والتطبيل كله لك، يا عقربنا يا ملكنا، افعل بنا ما تراه في صالحنا، فإننا جاهلون بماضينا، وعاجزون عن كتابة مستقبلنا، فأنت الأعلى وبحالنا أعلم، وإننا نحن الشعب الأعور).

ضحك الجميع للمفارقة العجيبة، والتركيبة الغريبة للشعب المصري، فهو الثائر والمطبل في آن واحد، ثم أظهرت سماء طفولتها حينما وقفت على السلم الحديدي بجانب الشراع، وقد هدت الأمواج، وأمسكت بقلم جعلته ميكرفونًا وقالت بسخرية ضاحكة:

  • أعزائي الأخوة والأخوات، لا حاجة لوصف جحيمنا أكثر، فمعظمنا يعلمها ولنا معها حكايات وأحداث تروى، ومن لم يصله الوصف ويتسأل عنها، لا تستعجل يا صديقي، فأتوقع بسماعك لخزعبلاتي هذه كافية لإحضارهم لك، ولكن أبرئ نفسي، فقد أكون سببًا في إحضارهم، ولكن لن أستطيع أن أنتشلك من بين أيديهم، فكما يقول المثل المصري (مش كل اللي يحضر العفريت يعرف يصرفه).

تبسم الجميع لخفة ظلها وذكائها الشديد في إيصال المضمون بطريقة طفولية جذابة، ولتنهي حدة الحوار القائمة التي ستؤثر على طبيعة المهمة التي يتغربون في وسط الأمواج وقلب البحار من أجل توصيل رسالتها السامية.

ولكن ما لا يمكن يعلمه أحد أن العفاريت قد حضرت بالفعل! العفاريت حضرت. حضرت العفاريت. العفاريت أين كانت لتحضر؟!