على حد ميناء مصوع، تقابلت الهيثم البكر مع قادة الدائرة الوسطية والثلاثيات العشبية والثنائيات الجبلية لاستلام إذن وتصريح التنقل بين المدن، والخط الهاتفي، ورخصة القيادة، فالدولة الإريترية من أغرب وأعسف بلدان العالم حتى مع الأجانب، إلا أن القبة المصرية من القليلين أصحاب النفوذ بها، بمجرد الوصول ميدان مصوع، بادرت رواية بسؤال حول تاريخ المدينة الحديث لكي تعيد الروح الطيبة التي كانت تسود بينهم قبل أن يتطرقوا للحديث في الشأن المصري، الذي يدور منذ قيام ثورة يناير، المجيدة والوحيدة، في كل عائلة مصرية، وينتهي بلا أي نتيجة عقلانية غير أنه يخلف بعض المشادات الكلامية والتي تصل لحد القطيعة بين أفراد الأسرة الواحدة من أجل مبدأ إن لم تكن معي فلست مني، فسألت وهي تعلم الإجابة:

– كيف لأسمرة أن تلقب بروما الأفريقية الصغيرة الحديثة مع أن مصوع التي نحن بها الآن هي عاصمة المستعمرة الإيطالية في 1890م طبقًا لقرار الإمبراطور أمبرتو الأول؟

– هذا صحيح، وهي كانت كذلك بالفعل إلى عام 1921م حيث تولى الحزب الفاشي السلطة، وعلى رأسه موسوليني، ومما معلوم للجميع أن خياله الجامح كان ينسج له أنه قادر على إعادة الإمبراطورية الرومانية وأمجادها الغابرة، فكان يرى أن الدولة الرومانية ستنبعث من جديد، من أفريقيا، ولأن مصوع هي عالم الموتى كما كان يصفها المؤرخون حيث تجمع بين أعلى حرارة وأعلى رطوبة، بدلها موسوليني بقرية أسمرة ذات الأحياء الأربعة، والجو الإيطالي المطابق تمامًا لروما، والتي تقبع في أعلى الجبل بارتفاع 2.5 كم عن مستوى سطح البحر، وتبعد عن مصوع بحوالي 50 كم شرقًا، وبالفعل، أرسل إليها المعماريين الإيطاليين العباقرة، الذين استطاعوا في سنوات وجيزة جعل أسمرة كروما في مبانيها ومعمارها المجنح الخيالي.

قاطعهم قائد الثنائيات الجبلية بأدب محذرًا:

  • الآن سوف نستقل القطار الإيطالي في طريقنا لوسط أسمرة، أرجو عدم الحديث في الشأن السياسي الإريتري قدر الإمكان، فالدولة بأكملها حائط واحد له ألف أذن.

لأن سماء ورواية أول زيارة لهم لإريتريا تملكتهم الدهشة والذهول والحيرة من هذه الطرق الوعرة الخطيرة للغاية، كيف استطاع الإيطاليون أن يصنعوا في مثل هذه الجبال العويصة المرتفعة هذا القطار الذي مازال يعمل بكامل كفاءته منذ عام 1911م، فركوب الطائرة مهما كان نوعها أو حالتها لا يبعث على الخوف والقلق كهذا القطار، وإن كانت رحلته الجزافية أكثر متعة ومغامرة، أما عند وصولهم أسمرة فما كان من الجميع إلا الاعتراف بأنها حقًا روما، نسخة رومانية طبق الأصل لا تميزها عن روما الأصل سوى البشرة السمراء، ومن بين المباني الخلابة الفاتنة التي تتفوق في سحرها ما لم يتوقعه الخيال بوجوده في القرن الأفريقي شد انتباه سماء مبنى وزارة التعليم بوسط أسمرة، فتساءلت:

  • أرى أن هذا المبنى يمثل فأسًا، أليس صحيحًا؟

فنظر علاء للمبنى القابع أمامهم مجيبًا:

  • هذا هو (La casa fascista) البيت الفاشي، الذي كان يدير من خلاله موسوليني خططه الطموحة الاستعمارية.

وأثناء تنقلهم، متنكرين مموهين في لباس سياحي أوربي، بين الأحياء الأربعة الرئيسية لأسمرة التي تعج بالسياح والناس والبيوت، اقتربت رواية من علا وسألتها في سرية وبصوت منخفض للغاية:

– لماذا كل هذه التنقلات من بلد لآخر؟ أليس في استطاعتكم نقلنا إلى مصر دفعة واحدة، في طائرة واحدة، لن تأخذ سوى بضع ساعات؟

– كان باستطاعتنا الرحيل من زنجبار للقاهرة في غضون ساعات، ولكن الأمر معقد أكثر مما تتخيلن، فأنت في حالة مراقبة تامة ودائمة لجهة تعلم عنك وعن مهمتنا بعض الشيء، ولا نعلم عنها أي شيء، فلابد من خطتنا هذه للتمويه، لإتاحة فرصة أمامنا لإرباكهم، لكشف هذه الجهة وآليات عملها قبل أن تصلين للقاهرة في أمان، إن شاء الله.

انتبه الجميع على صوت علاء، يحثهم على الدخول لمبنى الأوبرا، مسرح أسمرة، بمجرد سقوط أعينهم بداخله شعروا بالبراعة والتميز الحقيقي للأوبرا الفريدة من نوعها في العالم، لتصميمها غير المعهود، الذي يحليه الرسومات الرائعة للنساء الراقصات وطيور الخفاش، كما برز وأتقن الإيطاليين التميز العمراني، أبدعوا أيضًا في التميز العنصري، فهناك سلم خارجي بعيدًا عن المسرح لدخول الإريتريين، حتى لا يختلطوا أثناء الدخول بالعرق السامي، الأوربيين الذين يجلسون بالدور الأول، أخذوا يتأملون المسرح بجوانبه المختلفة، وأكثر ما لفت النظر تلك العبارات الثورية المنسقة والمسجلة بلغات مختلفة وعديدة على المقاعد والجدران، فلما سأل أحدهم عنها، تولى الدكتور علاء الإجابة بخصوصها فقال:

  • إريتريا تتكون من تسع عرقيات مختلفة، ولذلك الغالبية هنا تتحدث تسع لغات بطلاقة.

فعقبت رواية ساخرة وهي تتطلع الشعارات التي تحتاجها مصر في الوقت الراهن لتفعيلها:

–       هل تعلم أن أفضل شيء في إفريقيا، وإريتريا بشكل خاص، أنهم ليسوا بحاجة لكليات الألسن.

في هذه اللحظة اقتربت سماء لتسأل:

  • هل الأسطورة الإريترية صحيحة؟!

فعقبت رواية مستوضحة:

  • الخاصة بقتال الشعب الإريتري؟
  • نعم

فتولت علا الإجابة:

  • الشعب الإريتري حارب ثلاثين عامًا متصلة شعوبًا وجيوشًا تفوقه بعشرات المرات.

فسألت رواية:

  • وهل القرى الكاملة الكامنة تحت الأرض حقيقية؟

فأجاب علاء:

  • الشعب الإريتري، 80% مسلم والبقية مسيحيين، غالبًا في تسامح وود، وفي هذه الحرب ضد إثيوبيا، تفاعل وتشارك مع بعضه البعض بكل السبل، فبنوا معًا قرى كاملة ثم دفنوها، وهناك قرى من آلاف الكيلومترات بين الجبال ردموها أيضًا، كما صنعوا مدينة كاملة تحت الأرض بجميع مرافقها وشوارعها ومصانعها ومستشفياتها وصيدلياتها ومساجدها وكنائسها، إنه شعب عبقري، اعترف العالم أجمع بعبقريته الحربية، كما أنه ظل صامدًا على هذا المنوال لثلاثين عامًا، كما أنه صنع كل أدواته الحربية في هذه القرى المخبأة تحت الأرض.

فسألت سماء:

  • وما حاله الآن؟

ضحكت رواية لعلاء الذي رد عليها ببسمة وكلاهما ينظران قلقًا من علا والصاقر وقادة المجموعات، فأخذت الأولى بزمام الإجابة:

  • آه، الشعب المشتت، منذ انتهاء الحرب واستقلال إريتريا يتصدر الموقف السياسي حزب واحد، أحد، وحيد، منفرد، و …

قاطعها قائد الدائرة الوسطية بعد أن أبصر ساعته بقوله:

  • يتوجب علينا التحرك خلال ساعة واحدة من الآن.

حدقت الأعين بأسرها اتجاهه، فشعر بالإحراج قليلًا، فنبأهم قائلًا:

  • الحديث في تل أبيب أقل خطورة علينا من الحديث هنا، فلا نريد أي إحراج للقيادة السياسية المصرية، فإريتريا هي حليفنا الأفريقي الأقوى في المنطقة.

فقال علاء بتحسر:

  • ولجمع الإمارة أيضًا في الخريطة الجديدة المقبلة على عالمنا الثالث.

فخشت علا من تفاقم الحوار، فأمرت بحزم قاطع:

  • كفى جدلًا! لنناقش الأمر خارج الحدود الإريترية، فهذه السلطة الجبارة المتمكنة من حبس ثلث شعبها، وتهجير الثلث الثاني، لقادرة بلا شك على نسفنا في الحال.

فقالت سماء بعفوية، متحدية أمرها:

  • وأين الثلث الآخر؟

فأجابها علاء بنبرة لا تخلو من حزن وبتذبذب خشية غضب زوجته والصاقر أو ذاك القائد المستجد في رحلتهم الطويلة:

  • الثلث الأخير يحيي في الوطن، مغصوب الإرادة منتزع الكرامة، إن وطئت قدماه خارجه لفر بلا رجعة، يعيش ليل نهار تحت نار العبودية، العبودية الحديثة، العبودية المبررة، التجنيد الإجباري، يا له من نظام تجنيد فريد من نوعه! حيث تمتد فترة التجنيد لأكثر من عشرة أعوام، بدون مقابل مادي، ذكور وإناث، عسكرهم يمتلك كل شيء، البلاد والعباد، فيتعامل مع البلاد كتركة أبيه، ومع العباد كعبيد أجداده، حتى الإعلام، صحيفة واحدة، قناة تليفزيونية واحدة، محطة إذاعة واحدة، وكلهم ملك الدولة، يعمل المواطن الإريتري التعيس موظف حكومي، صانع، فلاح، عامل محجري، ولكنه كمجند، لا أكثر من بيادة، تصل فترة التجنيد لبعضهم لسن السبعين، فطالما له من الصحة ما يؤهله للسير على قدميه فهو جندي مجند، مقاتل، أو عامل، وللأسف الشديد هذا النظام التجنيدي يدرس الآن على قدم وساق في مطابخنا لإمكانية تنفيذه كاملًا، وإن طبق بعضه بالفعل، فيوما ما سنصير ما صاروا إليه.

في هذه اللحظات شعر أهل المدنية بغليان وفوران أهل القبة، فمع نظراتهم الصامتة سكت الجميع اتقاء سهامهم الغاضبة المنتشرة في الأرجاء، أما الصوت الجديد الذي صدر فكان لتلك النافذة العلوية للمسرح وقد فتحت فجأة وعقبها ثلاثة أصوات رنانة لثلاث طلقات نارية اخترقت جميعها جسد الصاقر.

استهداف جهة ما للصاقر وما له من تاريخ، بهذه الجرأة والكفاءة هي أقسى صفعة وأشد لطمة تلقاها عش الصقور في تاريخه الحديث، ولهذا الخوف والذعر والاحتراس منها كان حقيقي، مما جعل الصقارين ترتبك فتعمل على نقل الصاقر لوجهة سرية بالرغم من إصابته الخطيرة، فنسقت الدائرة الوسطية مع الفرديات الصحراوية نقل الصاقر، بينما تولت الثنائيات الجبلية مع الثلاثيات العشبية تأمين علا وعلاء ورواية وسماء لجزيرة توتي وتسليم المهمة للمجامع المتحدة.