وبعد منتصف الليل بقليل، وبعد يوم جسيم وعسير لما حدث وأصاب الصاقر وهو غير المعتاد، توقفت المراكب على ضفة مدينة توتي القديمة، فارتحل عنها رواية وسماء وعلاء وعلا راجلين متنقلين بين أزقة المدينة الضيقة للغاية، ولكل يعقوب حاجة في نفسه، وفي صحبتهم قائد المجامع المتحدة، وأثناء سيرهم بدأت سماء في ثورتها على الحزن والقلق الذي انتاب الجميع فسألت مرشدهم الجديد عن سبب تركيبة هذه الشوارع بهذه الطريقة الغريبة، فأجاب وهو يتقدم للأمام وفي يده الكشاف الضوئي:

  • هذه التركيبة هي نتيجة طبيعية في كل البلدان الريفية، فالفضاء كان صحراء متسعة، فالابن حينما يبتغي الزواج يقوم ببناء حجرة بجانب البيت الأصلي، فلم يكن معروفًا لهم فكرة البيت الجامع.

وهذا ما فتح له المجال ليتحدث عن المدينة وتاريخها العريق وحكاياتها مع الفيضانات المخيفة التي كانت تهدد موقعها الفريد بالغرق الأبدي، وظل يتمتم بصوت مهموس إلى أن وصل أمام منزل أثري قديم، يتضح على واجهته الأمامية التراثية أهميته وعراقته، فسألت رواية بصوت مرتفع قليلًا:

  • أين نحن؟

أطلق قائد المجامع عينيه باتجاه المنزل الخالد، وقال:

  • هذه الواجهة الأنيقة هي لمنزل الزعيم مصطفي خالد.

فاستفسرت سماء وهي تنظر بدهشة:

  • ومن هذا الزعيم؟

فتنهدت علا ثم سردت:

  • مصطفى خالد، الزعيم السوداني، صنع تاريخ حقيقي فنساه التاريخ المزيف، أول من عرفت به أول مواجهة مع الإنجليز دفاعًا عن أرضهم وعرضهم، لقد كان رجل حقًا.

واصلت بعد برهة قصيرة تطلعت فيها لجوانب المنزل:

  • في يوم الجمعة الموافق 7 أبريل 1944م، خطب مصطفي خالد في الناس ليعلنوا رفضهم لقرار حاكم الخرطوم الخاص بترحيل غالبية سكان توتي لتخصيص ثلث الأرض لإقامة مشروع تجارب زراعية لعلماء بريطانيين.

ساد الصمت ثواني معدودة، ثم تابع قائد المجامع:

  • لإنهاء هذا التمرد قامت السلطات الإنجليزية بعقد اجتماع بين مدير الخرطوم وممثلي أهل توتي يوم 14 أبريل، دام لساعتين بلا طائل، فالإنجليز يصرون على انتزاع الأراضي، ومصطفي خالد ومن معه يرفضون خيانة وطنهم وشعبهم، خلال الساعتين توافد على مقر الاجتماع العشرات من الأهالي، فلما خرج مصطفي خالد وأخبرهم بنتيجة الاجتماع قائلًا: كما قالها سعد زغلول بمصر لا فائدة “مفيش فايدة”، فالأرض منزوعة منزوعة عاجلًا أم آجلًا، اجتاحت صدورهم الكراهية والعداوة والسخط، فحاول بعضهم اقتحام المقر، فتوجهت بنادق الحراس لصدورهم حيث استقرت رصاصة بأحدهم مات في الحال، وألقي القبض على 24 منهم.

في هذه اللحظة فتح الباب الرئيس للمنزل وطل منه شيخ ثمانيني، فبادر القائد قائلًا:

  • وهذا هو العم الضرير، أحد هؤلاء السجناء القدامى.

اقترب القائد من العم، فصافحه وقبل رأسه ودخل، وتابعته البقية بنفس الفعل، فكم يحب المصريون أهل السودان الذين يبادلونهم الود والاحترام، وإن لم تكن العلاقات الثنائية، السياسية اسمًا الانقلابية نوعًا، على وفاق على مدار القرن الأخير، فالإدارة المصرية والسودانية كالعاهرتين، يغضبان ويغيران من بعضهن البعض عند طلب أي زبون لإحداهن، سواء خليجي أو أمريكي أو تركي، وبعد أن يأتيها وراء مصنع الكراسي ويفرغ بها، يهملها وينفر منها، فتعود لصاحبتها بما نالت، ويعاودان صحبتهما إلى أن يأتي زبون آخر يباضع إحداهن، وهكذا.

بمجرد جلوسهم بردهة الاستقبال المتواضعة، طمئنهم قائد المجامع على صحة الصاقر لما وصله من تقارير حديثة، أما رواية فلم تتحمل الصبر أكثر من ذلك، وخاصة بعد كل هذه الأحداث الأخيرة، فهي شاردة في العالم المجهول الذي ينتظرها ولا تعلم عنه شيئًا، فصاحت صارخة:

  • يا أنتم كفى هذا الهراء، لن أصبر بعد الآن، أريد معرفة الحقيقة، الحقيقة كاملة، وفي الحال.

أشعل قائد المجامع سيجارته الزرقاء الشاذة، ثم أخذ يقترب ببطء من رواية، وكل خطوة تصل لأذنها تقع عليها ثقيلة كالجائحة، خائفة مرتجفة مما سيقال، ومما سيكشفه من حقيقة تخشى أن تطابق ظنونها وتوقعاتها التي بلغت مبلغها في الأيام القليلة الماضية، وقف أمامها وفتح النافذة، ثم سحب نفثًا عميقًا من سيجاره، ثم قال ونظراته للفضاء تخرج مع سحاب الدخان:

  • أنسيموس هو أخ للفتاة التي وجدت منحورة مع أخيك.

هكذا كانت تظن، بل كانت متيقنة من هذه الحقيقة المؤلمة، ولكنها كانت تأمل في أن يقول ما يخالف ظنونها، أو حتى يكذب عليها، فأحيانا كثيرًا الكذب نجاة من عذاب نفسي وانكسار روحي لا نستطيع تحمله، أخذ منها التفكير عدة ثوان قبل أن تنهار نفسيًا، كل ما ارتكز في عقلها وأيقنته بداخلها أن هدف أنسيموس منها كان الانتقام، الانتقام فحسب، فلا إسلام، ولا حب، ولا صداقة، ولا شيء.

شعر الجميع بالحالة المؤسفة التي عليها رواية فاقتربت منها علا تلاطفها للهوان من الأمر المحزن والمخزي، قائلة:

  • لا تحزني يا صديقتي، فلعله لم يقصد الانتقام كما يوسوس لك شيطانك.

جففت رواية دموعها بكبرياء، ولملمت شجاعتها قائلة بتهكم ساخر:

  • بما أنكم الجهاز الأول في جمع المعلومات، تعرفون ما نعرف وما لا نعرف، أخبرني أيها القائد العام ماذا كان يريد مني حينما دخل حياتي؟

تلعثمت علا لمخافتها هذا السؤال المتوقع، نظرت في أوجه المتفرقين حولها قبل أن تجيبها:

– حقيقة يا رواية هو كان يريد الانتقام منك، ليلحق بك فضيحة مثل تلك التي ألحقها أخيك بأخته، ولكن هذا ما لم يقم به، وما لم يحدث في الواقع، وهذا مما يدل على عدوله عن قراره المسبق.

– وما الذي يجعلني أثق في أنه مال عن هدفه؟ قد يكون إسلامه مزيفًا، وحبه لي أيضًا زائفًا، قد تكون مجرد خديعة ليوقعني بها.

شعرت القائد العام بغضب واستياء ما يجتاحها نتيجة لكلمات رواية، فقالت مسرعة:

  • أنا بالفعل لا أستطيع أن أذكر لك أسباب عدوله عن الانتقام، ولكني أستطيع أن أؤكد أنه أسلم إسلامًا حقيقيًا عن اقتناع، وأنه يحبك حبًا جمًا، فأرجوك لا تظلميه.

تدخل في هذه الأثناء قائد المجامع مبررًا:

– المهمة التي هو فيها الآن هي أكبر دليل على حسن إسلامه وصدق نوياه، أما اهتمامنا بك وحفاظنا عليك دون غيرك هو برهان وإثبات حبه لك، فما نقوم به هي وصيته لنا، وشرطه الوحيد للعمل معنا.

– أين هو الآن؟

فقالت علا، وقد هدأت كثيرًا، بلغة حنونة لطيفة:

  • لم يناسب الوقت ولا المكان لمعرفة قصته بعد كما ترين الحالة التي أصابت القبة جراء ما حدث للصاقر، ولكن غدًا في منتصف الليل سوف تنقلك طائرة سودانية دبلوماسية للقاهرة، فسوف تصلين بيتك فجرًا لتنامين في أحضان والدتك، إن شاء الله.

في تلك الأثناء، وبعد أن هدئ الجميع وسيطر شعور ما بالارتياح، قام المندوب الإلكتروني للمجامع المتحدة مفزوعًا من مجلسه وهو يشخص ببصره في شاشة الجهاز التي أمامه وصاح بصوت مخنوق:

  • أعتقد يا سيادة القائد العام أن الخطة هذه المرة لم تنجح بعد، وصل تقرير.

تقرير خطير. نحن في كارثة.