تجلس أم إسحاق على أرضية الشرفة، بيدها اليمنى تقبض على الحاجز الحديدي، وبالشمال تمسك كوب الشاي، بعينها تنظر للشارع في اشتياق وتلهف، ترمى بأذنها لمتابعة جرس الباب، هذه مراسم احتفال وصول ابنتها الحبيبة، فلقد اقترب الموعد الذي أبلغتها به حنان، أخت إيمان، تغيب لبضع دقائق عن الحاضر لتسبح في الذكريات القديمة الأليمة، تتعجب من فعل الزمن بها وبحالها، تذكرت أول لقاء لها بزوجها عندما كانت في العام الأول بالثانوية العامة، حيث دائمًا ما يغازلها الشباب في الشوارع الجانبية بعباراتهم الساخرة:

  • كم سعر الكيلو من هذا السمك الطازج؟

وآخر يقول:

  • هل أنت مشط أم بلوطي؟

فيقول آخر:

  • هذا حوت.

فيقول ثالث:

  • أموت أنا في الحوت، العب يا سمك.

كان هناك شاب ثلاثيني، صاحب متجر، دائمًا يتابع هذا المشهد يوميًا أثناء الذهاب والإياب من المدرسة، وفي أحد الأيام تجرأ أحد هؤلاء المعاكسين، فأطال يده ليتحرش بثديها الكبير، ظنًا منه كمعظم الشباب المراهقين والجاهلين أنها مسيحية فهي منكسرة، ضعيفة النفس، لن تقوى علي المقاومة أو فعل شيء، وهي كانت كذلك بالفعل ليس لكونها مسيحية فقط ولكن بالإضافة لفقرها المدقع، ففي مصر أقلية مع فقر يعني السحق العلني بدون دية، غير أن الصدر الممتلئ في بلاد العرب جريمة، نعم يرونه جريمة تستحق صاحبته عقوبة مغلظة، إما لفظًا أو فعلًا، فكيف له أن يتجرأ هذا الصدر فيكبر ويزيد حجمه! ألا يعلم أن معظم العرب معقدين نفسيًا محرومين جنسيًا، ولكن هذا الثلاثيني لم يتقبل الموقف، فركض نحوها حتى خلصها من هؤلاء المتحرشين، وأخذ بيديها إلى متجره، وبعد أن اطمئن عليها وعلى نفسيتها استفسر منها:

  • أتسمحين لي أن أسألك لماذا هؤلاء دائمًا ما يعاكسونك بالسمك؟

فتشجعت هذه المرة على الكلام، وصرخت به، وكأنه المسكين قد رأت فيه كل معاكسيها:

– لأن رائحتي سمك، ألا تشم الآن رائحة السمك تنبعث مني؟ أم أنك تخشى خدش مشاعري؟

– لا أقصد، ولكني كنت …

فقاطعته بجدية قائلة:

– لا عليك يا أخ.

– اسمي عيسى

– وأنا نيلوس

– ما وراءك؟

– أنا ساكنة بلا مسكن، لاجئة بلا مأوى، عائشة بلا عنوان.

– هل تعيشين في العشوائيات؟

– يا ليتني أسكن في العشوائيات، فهي لي أجمل الأحلام، هي الجنة في عيوننا، أنا من سكان النيل، نأكل ونشرب في المركب، ننام في المركب، نقضي النهار في المركب، نعيش الحياة بأسرها في المركب، نصفه المطبخ، والنصف الآخر غرفة النوم، فحرفة أبي هي الصيد، ولا يملك أي شيء سوى قاربه، فلا جدران تجمعنا ولا سقف يحمينا.

– اعذريني، فلا أستطيع استيعاب هذا الأمر، فهل هناك أناس يعيشون في المراكب حقًا؟

– لا تستعجب كثيرًا، فأبي لم يمتلك بطاقة هوية إلا حينما ألحقني بالمدرسة فأجبر على استخراجها، فتبرع له أحد سكان الضفة التي نتردد عليها بتسجيل عقد إيجار له حتى يتمكن من إلحاقي بالمدرسة.

قطع عليها تفكيرها دقات الباب المتتالية، فذهبت لفتح الباب لعلها تجد من يثلج صدرها الذي طال غيابه وسئمت انتظاره، فأصيبت بصدمة حينما وجدت حنان وهي تقول لها بأسف:

  • اعذريني يا خالة، فلن تأتي رواية اليوم كما وعدتك، فهناك أمور جديدة.