تبكي أم إسحاق نادبة حيث تصلي في الكنيسة، تتضرع بالدعاء لحفظ ابنتها مما أصابها، والذي علمته منذ أيام من قائد متواترة الأصل بناء على تعليمات الصاقر، أخرجت صورة زوجها وهي تنتحب بغزارة فأغرقت الصورة بدموعها، توبخ نفسها لائمة لوامة:

  • سامحني، سامحني، يسامحك الرب، فأنا السبب في هذا الذي يجري، لقد قتل الولد، والبنت لا أعلم مصيرها، لم أتوهم أن إخفاء الحقيقة سيؤدي لهذا الهلاك، أعرف أنني خنت الأمانة التي أودعتها إياي، أصفح عني، لم أٌقل الصدق ولم أنقل الأمانة، كنت أظن أن الأمر لن يجري هكذا، ولكن ظهر الحق الذي لم أكن أظن لمرة واحدة أنه سيطفو، اعفُ عني عفاك الرب.

ظلت هكذا تستدمع وتطلب المغفرة لتضليل وتدليس الحقائق التي لا يعلمها سوى ثلاثة، الأب المتوفى، والأم، والصاقر، والذي بدوره سيجعلها مخفية إلى أن يأذن هو وحده بقولها.

وصلت السيارة المصفحة التابعة للقبة أمام الكنيسة لتنقلها إلى حيث مقابلة الصاقر، في طريقها على النيل تذكرت تلك الأيام التي عاشتها على هذه الشواطئ، وسط المياه، بداخل مركب مخروق مثقوب مشقوق تتسرب إليه المياه من كل جانب، تذكرت تلك الطفولة حينما لم تتعدَ الخمس السنوات أثناء تعليمها العوام في البحر، يأتون بجركن بلاستيك ويربطونه على ظهورهم ويتركونهم في الماء هكذا ساعات طوال يتعلمون العوام بهدف التأقلم للعيش في هذا المحيط المائي.

وليتفادى الأهل غرق الأطفال أثناء الليل كانوا يقيدون أقدام بعضهم البعض، ويوثقونهم جميعًا في يد الأب ورجل الأم حتى لا يسقطوا في الماء أثناء نومهم على ظهيرة المركب، أما في الليالي الحمراء، كان القيد يمنع الأب والأم من مارستهما للحب بالشكل الذي يكسبهم المتعة الكافية، وإن لم يكن هذا الجماع في أغلب الحالات لا يتجاوز الخمس الدقائق.

بعد أن دخلت نيلوس مرحلة المراهقة، بدأ الأب يتبادل مع صديقه الجماع في ليلتين مختلفتين، فيوم الجمعة هو من نصيب الأب، فكانت تذهب نيلوس لتنام في مركب صديقه، ويوم الثلاثاء كان من نصيب صديق الأب، فكانت صديقتها نهرو تأتي للمبيت معهم، وهكذا كل جمعة وثلاثاء.

كانت كلما أحست بغضب الوالد أو الوالدة، أدركت مدى حاجتهما للانفراد ببعضهما، تتبين ذلك في وضح النهار من خلال لمساتهم أو احتكاكهم، فتبدي على الفور رغبتها في زيارة صديقتها نهرو على القارب الآخر، فكانوا قاربين لا ثالث لهما في المنطقة النيلية التي كانوا يحتلونها، وكانت صديقتها أيضًا تقوم بنفس الفعل في نفس الظروف، حتى أتت إحدى الليالي الحمراء التي أضحت سوداء للأبد، فك الأب والأم القيد الذي يربط الأخ والأخت الصغيرين من أيديهم وأرجلهم، حتى يتمكنا من ممارسة الحب على أكمل الطرق، فاختار القدر هذه الخمس الدقائق لكي يغرق الأخ والأخت الأصغر في عمق الماء، فمع قوة الأب التي يطلقها باتجاه الأم التي بدورها تقابله بقوة أكبر، فاللقاء بعد الحرمان يجعل من المكبوتين طاقة جبارة، ونتيجة لهذه الشدة والاستقواء أخذ المركب يهتز يمنيًا ويسارًا حتى تساقط الطفلان أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال، ولم تمهلهما الماء للصراخ أو تنبيه الوالدين الغارقين في اللذة، وبعد أن انتهى الزوجان من متعتهما أفاقا على الحزن والألم الذي سيصاحبهما طوال العمر، فالقدر استكثر عليهما المتعة الوقتية فأكسبهما حزنًا دائمًا.

في تلك الأثناء، وصلت سيارة متواترة الأصل حيث المكان المتفق عليه لمقابلة الصاقر، رحب بها، وشرع في الحديث مباشرة قائلًا:

  • أنا أعرف الحقيقة، ولكن لا أعرف تفاصيلها، فهل تسمحين لي أن أطلع عليها لمساعدة رواية، إذا لم يكن لديك مانع؟
  • في البدء، أنا لم أكن أعرف أنت مسلمة أم مسيحية، إلا في سن العاشرة، اعتدت في المدرسة على حضور حصص الدين مع المسلمين، عندما كان ينادي المعلم في الطلاب المسيحيين بالخروج للملعب ليتلقوا حصصهم الدينية، لم أكن أذهب، كنت أجلس مع الأغلبية، فتعلمت الشيء القليل عن الإسلام من خلال الكتب والحصص الدينية التي كنا ننتظرها لننام فيها، أو نحكي مع بعضنا البعض، أو نرسم، حيث كان المعلم يقول لنا هذه ليست مادة ضرورية فهي خارج المجموع، فلم يكن بدوره يهتم بها، فمن الطبيعي أننا لن نهتم بها، وهكذا كانت تمر جميع الحصص حتى إذ فجأة قرأ المعلم اسمي كاملًا على الكتاب مما أوحى له بأنني مسيحية، فأنبني كثيرًا على هذا الجرم، الجلوس في حصص الدين الإسلامي التي كان ينام فيها ويتركنا لنلعب ونلهو! كما ضربني ضربًا مبرحًا لحملي كتاب إسلامي، وهو لا يمسه إلا المطهرون، وأنا بالنسبة له نجسة كافرة.

تلقيت كل هذه الإهانة والضرب وعندما عدت أنا وصديقتي للمركب، وجدنا أسرتي وأسرة صديقتي مجتمعين للغداء، وفي انتظارنا كالعادة، قصيت عليهم ما حدث لي، ولم يحدث مع صديقتي، فأخذ أبي وصديقه يسخرون من هذا المعلم المنافق الذي مازال يعبد إله، وما فهمته، وقتئذ، أن صديق أبي من المفترض أنه مسلم وبالتالي عائلته مسلمة، ولكنه ليس ملتزم دينيًا ولا يعلم أدنى شيء عن دينه الإسلام، كما فهمت أن أبي مسيحي وبالتالي فعائلته مسيحية، وإن لم يكن يعرف شيء عنها، ولم يتعبد أو يصلي مرة واحدة، وقال لي أبي يومها:

“يا بنيتي كل هذه هي أشياء ورثناها عن الأجداد الذين أقحمونا في هذه الدنيا الحقيرة، عليهم اللعنة، فالرب لا وجود له إلا عند الأغنياء فقط، فإن كان موجود وعادل كما يقولون لماذا تركنا هنا وحدنا نعيش بلا مأكل ولا ملبس ولا مأوى؟”

ففهمت منذ ذلك الوقت أن الكون هذا بلا إله، أو رب، وأن لا معنى لكلمة ديانة، فعشنا حياتنا على هذا المنوال إلى أن حدثت ذات يوم مشاجرة طائفية بين المسلمين والأقباط على إحدى الشواطئ التي نرسو عليها أحيانًا لنتبضع ونبيع السمك، كان الجميع في حالة غليان ونفور والدماء تراق هنا وهناك، وكنا نحن الأسرتين فقط اللذين نضحك من هؤلاء وهؤلاء اللذين يحاربون بعضهم البعض من أجل آلهة غير موجودة، فلو أنها موجودة بحق فلما لا تمنع هذه الدماء التي تسال باسمها؟!

ظللنا طوال اليوم نسخر من هؤلاء وهؤلاء، ولكن مع بداية الليل بدأ الحديث يزداد حدة من اتجاه أبي تارة، ومن اتجاه صديقه حجاج تارة، وأمي مرة، وأم صديقتي مرة أخرى، وقد بدأت عدوى الطائفية تنتقل إليهم وتزداد شدة مع الوقت، وهم الذين لم يعبدوا ألهتم أبدًا من قبل، بدأ الحديث يأخذ مجرى الانفعال، كل يدافع عن دينه، وكلاهما جاهل به، لا يعرف دليل أو معلومة حقيقية عن دينه يجادل بها، ولكنه اختلاف احتدم، فالجهل اتخذ طريقه ومسلكه وبدأ يتفاعل في عقول المتخلفين، عرج الجهل المهمة لصديقه الشيطان، فبدأ الشيطان وسواسه لكليهما، فأخرج كل منهم مطواته، فكان لأبي النصيب في البدء، فغرس سكينه في صدر صديق عمره وزميل كفاحه، فأتت امرأته فغرست سكينها في قلب أبي، فتولت أمي المهمة سريعًا فغرست في رقبتها المطواة، فأتت صديقتي بسكين أباها وذبحت أمي من عنقها، أمسكت نصلي، وصديقتي وقفت أمامي بنصلها، وكلانا تراسل الأخرى بعقلها وحالنا يقول هؤلاء الذين يكفرون بآلهتهم، ولم يعبدوها يومًا، يموتون من أجلها، يا له من هراء! وفي لحظة واحدة توقف معها الزمن، رمت كلتنا سكينها، وأبصقنا على الجثث المترامية، ولعناهم هم وآلهتهم التي لم يؤمنوا بها، ولم يعبدوها، وماتوا من أجلها، فالجهل والتخلف كفيلان أن يفعلان مثل هذا، ثم أشعلنا النيران في أجسادهم، وانطلقنا فارحين وكأننا تخلصنا من كابوس عظيم، ظلموا أنفسهم وأظلمونا في الحياة، فكنا الوحيدات من بنات جنسنا ننام عراة في وسط الماء، لا نجد من يحمينا، أو يسترنا، حتى الدين الذي يعتبر الملاذ الوحيد لتصبير الإنسان أقصونا عنه، حينما كنا نسأل أمهاتنا متهمين إياهن بتقصيرهن في تعليم الدين وإبعادنا عنه، يقلن:

  • لم نبعد عن الدين ولم نبعدكم عنه، إنما هو الرب الذي أقصانا عنه، فنبذنا وتركنا وحيدين في المجتمع.

وأخيرًا بعد هذه المجزرة خرجنا من الشاطئ كل منا اتجهت لحياتها الجديدة التي صنعتها بنفسها.

 

___________________________

انتهى الجزء الأول ويبدأ الجزء الثاني تحت عنوان روح القلوب