وصلت روح القلوب لشنقيط, معقل اللغة العربية الصحيحة والسليمة التي لا تشوبها شائبة, ما أجملها من مدينة, وما أروعها من مكان, وما أنقائها وأصفاها, فهذا المطرح ما كانت تبحث عنه دائما حيث الصفاء, النقاء, الطهارة, الحب, الإيمان, الروحانيات, كل ما يحث على العبادة, كل ما يطلب التأمل, كل ما يزيد من العلم, كل ما يترع من الثقافة, وهل بقى في العالم مكان كهذا يمنح الحياة الطيبة!, فما زال العالم الصخب لم يلوثه, ما زال العالم الرقمي لم يخترقه, ما زال العالم النووي المتصارع لم يضربه, ما زال العالم الشهواني المادي لم يعفنه, إنها أرض طبيعية, أناس طبيعيون, إنها الأرض الحقيقية والبشر الحقيقيون, أين كان هذا الموضع؟ فالعالم أجمع في حاجة إليه, في حاجة للاستجمام الروحي والاسترخاء العقلي والهدوء الفكري.

تزامن وصولهم مع الجمعة, فصلوا في الساحة خلف الإمام, وبعد أن سلم عن شماله اتجهت روح القلوب من آخر الصفوف لأولها حتى اصطفت بجانبه ثم رفعت يدها لأعلى مناجية بصوت جهور:-

“إلهي أغنني بتدبيرك لي عن تدبيري, وباختيارك عن اختياري,

 وأوقفني على مراكز اضطراري.

إلهي أخرجني من ذل نفسي وطهرني من شكي وشركي قبل حلول رمسي.

 بك أنتصر فانصرني, وعليك أتوكل فلا تكلني,

 وإياك أسأل فلا تخيبني, وفي فضلك أرغب فلا تحرمني,

 وبجانيك أنتسب فلا تبعدني, وببابك أقف فلا تطردني”

  فما كان من المصلين إلا أن جاهروا بصوت يخالطه العجب والترحيب:-

اللهم استجابة  

فأدارت وجهها ناحيتهم وتحدثت فيهم بصوت جهور:-

  • أجنبية أنا عنكم, لست من نسلكم ولا أصلكم, كنت على ضيق حتى هداني الله للعالمية, وسعيت حتى وصلت لروح إمامي عليه وله منا كل الرضا ابن عطاء الله السكندري, وما أتيت لكم إلا ما سمعته عنكم من تقية وأصالة, فإن أردتموني بينكم فأنا متواجدة, وإن رغبتم في رحيلي فما زلت على أطراف أرضكم فلنولي الدبر.

فقام إمام المدينة مرحبًا ومستقبلًا:-

  • يا أهلًا بك يا بنيتي وبكل بني آدم أراد الطاعة والسكينة و..

فقطعه صوت خرج من بين الصفوف من أحد المتزمتين صائحًا بحدة:-  

  • نحن على منهاج السلف الصالح وأهل السنة, لا دخل لنا بالصوفية ولا بادعيها ولا كراماتها الخيالية الكذابة, فلا مقام ولا مقال لك بيننا.

فردت الروح بثقة وحياء:-

  • أحقا نحن أهل خيال وكذب يا عابد إياه؟!

     ثم في حركة واحدة نزعت عن نفسها عباءتها برتقالية اللون المتشحة بها على ثوبها الأبيض ثم أدارتها في السماء حتى طارت فطالت ثم أنزلتها على الرمال وصاحت بهم:-

  • فليضع كل منكم كفه على ثوبي هذا.

فوضعت الأغلبية على تململ, ومن وضع ونظر إلى موضع كفه وجده وقد رسم عليه بماء مذهب كلمات أشبه بالحكمة التي تكاد أن تنير, فتطايرت الحكم للقلب والعين فأصبحت البقعة مكسية بالحروف المنيرة لصاحب اللسان البليغ, والروح في حالة دهشة واستغراب مما حدث لتوه, ولكن هكذا الكرامات تظهر فلا يعلم المرء كيف ولماذا ظهرت, وإنما المعلوم علم اليقين أنه سبحانه أراد شيء فقال له كن فكان, ولا أفضلية لقائمها وإنما هو عبد الله قام بما قدر له, وممن وضعوا أيديهم رجل يتضح على مظهره الخارجي من لباس وملامح بأنه آسيوي, فظهر على مكان كفه؛

“لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار”

فسار إليها الأجنبي وجلالة الموقف ما زالت حاضرة أمامه وبداخله, فتنحى أمامها قائلًا بلغة إنجليزية متكسرة وبصوت مبحوح:-  

  • ياباني أنا, لم يبلغ إسلامي ولا انتقالي اليوم العاشر بعد, ما حدث اليوم أمدني بالقوة اللازمة لإكمال ما قد سبق وقد بدأت فيه, ولكن لا علم لي بالصوفية تلك.
  • ارفع يا عابد إياه وجهك ما في الإسلام انحناء لغير وجهه الكريم, أما فيما يخص سؤالك فلقد عرف المشرق والمغرب الصوفية بتعريفات ومصطلحات كثيرة ولكن ما يرضيني منها هو؛

“صفوة القرب بعد كدرة البعد”

اقتربت منهم في تلك الأثناء أنثى يبدو عليها أوروبية المظهر وقدمت نفسها ببلاغة:-

  • أيتها الروح العظيمة, أنا إيطالية الأصل, صقلية المسكن, مسلمة العقد, إباضية المذهب, صوفية الهوى, مولوية الطريقة.

فاستقبلتها الروح بلغة ايطالية ولهجة صقلية جيدة:-

  • يا مرحبا بالسيتشيلانية.

فاندهشت لإيطاليتها وتسألت:-   

  • وكيف تتحدثين الإيطالية؟
  • لقد درستها في جامعتي, يا لها من لغة شيقة وجميلة.
  • إنه لشرف للإيطالية أن تجرى على لسانك سيدتي.
  • أشكرك يا عابدة إياه, وما سبب مجيئك لهنا أيتها السيتشيلانية؟
  • إنها بلدة نشكر التطور والتمدن على عدم صيدها واختراقها للآن, فكما ترين هنا بلدة ما زالت بكر لم تغتصبها التكنولوجيا بعد.

أطلقت الروح عيناها فيمن حولها فوجدت وقد دارت حولها الدوائر من كل جانب من هيئات وأشكال وملامح مختلفة, فرحبت بهم بوضع يدها أمامها رافعة كفها لأعلى وأخذت تستمع لتعريفهم بأنفسهم فأخذت الألقاب تتطاير؛ فرنسية سويدية ألمانية إنجليزية برتغالية إسبانية ألبانية صربية بوسنية يونانية إيطالية روسية أفغانستانية باكستانية هندية أثيوبية صومالية جيبوتية أريترية ….

فصاحت مقاطعة لهن:-  

  • كلكن إنسان, كلكن مؤمنات, هذا فقط ما تجعلوه نصب أعينكن.

وغادرت الجمع في صحبة شامل إلى حيث مسكنه, وفي دربهم الرملي خرجت عليهم عجوز شمطاء ساخطة:-  

  • أيتها الروح, ما ظهر لي إلا؛

“من علامات النجاح في النهايات, الرجوع إلى الله في البدايات”

وآه من بداياتي آه منها

ثم تركتها وأخذت تسير بعيدًا وهي تردد بائسة:-  

  • آ من بداياتي آه, آه من بداياتي آه

واصلوا طريقهم حتى قابلهم كوخ حجري متهالك قليلًا, فتقدمها شامل حاضنًا يدها حتى استقر بها داخله, ثم اقترب منها يلثم يدها وقد عانقها وظل بين جناحيها طويلًا حتى شعرت بأنه سينقلب من حضن برئ إلى آخر شهواني, فامتنعت عنه بلطف, فضجر وسئم بعض الشيء فلم تعيره اهتمامًا, فقال وبعض الضيق يحل على ملامحه:-  

  • نحن متزوجون على كتاب الله وسنة رسوله.
  • نعم, وما في هذا الأمر؟
  • إنه لحلال لنا أن نقترب ونجتمع, بل إنه لفرض علينا أن نأتي بعضنا البعض, فما وجد الزواج إلا لهذا, منذ زواجنا لم اقترب منك.
  • إنه حلال لمن لم يذقه في الحرام يا شامل.

فسكت وأنكث رأسه فتابعت:-

  • ألم يكفيك ما أخذناه في الحرام, ألم تشبع مما جنيناه؟
  • لقد كان قبل إسلامنا ولا حرج فيه.
  • وهل كان حلالًا في المسيحية التي كنا عليها!؟
  • ولكننا الآن على الإسلام ولن نحاسب على ما فعلناه سابقًا.
  • لا, لقد خذلنا المسيح عليه السلام, وما أمرنا فيها بالزنا أبدًا, فكيف سأواجه المسيح وهو بجانب محمد في الجنة؟ كيف سأواجه رب المسيح ورب محمد؟
  • الإسلام توبة, ولقد توبنا إلى الله كثيرًا.
  • ومن يدريك أن التوبة قبلت؟
  • كيف لك أن تقولين هذا يا روح القلوب وأنتِ من علمتني أن إمامنا عليه وله منا كل الرضا قال؛

“لا تيأس من قبول عمل لم تجد فيه وجود الحضور, فربما قبل من العمل ما تدرك ثمرته عاجلًا”

 فلابد أن نعيش الإسلام, وأن نتزوج وننجب….

فقاطعته مستنكرة وصارخة بقسوة وحدة لم يعهدها بها من قبل:-

  • ننجب؟ أي إنجاب تتحدث عنه؟ كم طفل قتلته بطني هذه؟
  • لقد كان ماضيًا واندثر, والله تواب غفور رحيم.
  • وأين ولدنا؟ أين طفلنا؟ أين لحمنا ودمنا يا شامل؟

هدأت قليلًا وسكنت بعدما شعرت بقسوتها وغلظتها عليه وقالت:-

  • اتقي الله في نفسك يا شامل, يقول شيخنا عليه وله منا كل الرضا؛

 “أصل كل معصية وغفلة وشهوة, الرضا عن النفس, وأصل كل طاعة ويقظة وعفة, عدم الرضا منك عنها, ولئن تصحب جاهلًا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه, فأي علم لعالم يرضى عن نفسه وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه!”

تبسم شامل قليلًا وهو يرمي إليها بطرف عينه وقال مازحًا:-

  • دوما عندما تهربين من الإعتذار والتأسف ترددين هذه الحكمة, أو تلك التي أظن أنا الشيخ قد خصصها من أجل أن تؤدبيني بها في الذهاب والإياب, وأخذ يحاكي نطقها في قول الحكم؛ شامل يقول شيخنا عليه وله منا الرضا؛ “أنت حر مما أنت عنه آيس وعبد لما أنت له طامع, فما بسقت أغصان ذل إلا على بذر طمع”

فتبسمت لقدرته على استيعاب وفهم طبيعتها المتقلبة, وأعدت في نفسها كلمات رقيقة أردت أن تلطف بها إلا أن دق الباب منعها من البوح عنها, فذهب شامل ليرى الطارق, فوجد إمام شنقيط ومفتيها الأكبر جاء ليرحب بروح القلوب, فأدركها بالسلام ثم قال:-  

  • ما جئت إلا للترحيب بك أيتها الروح المباركة لترجمان العارفين ومرشد السالكين وتاج الدين, ما كتب في الصوفية مثل ما كتب, ولا جمع من العلوم مثل ما جمع, أهلًا بالروح وشيخها الجذامي نسبًا, المالكي مذهبًا, الإسكندري دارًا, القرافي مزارًا, الصوفي حقيقة, الشاذلي طريقة, أعجوبة زمانه, نخبة عصره وأوانه, ويكفي ما قاله فيه شيخه وإمامه أبو العباس المرسي؛ والله لا يموت هذا الشاب حتى يكون داعيًا إلى الله, والله ليكونن له شأن عظيم, والله ليكونن له شيء عظيم.
  • عليهم ولهم منا كل الرضا.
  • أعتذر عن ما بدر ظهر اليوم من أحد الدعاة, فنحن أمة لا نرفض لاجئ, ولا ننبذ ضعيف, ولا نغلق بابًا أمام قادم ولا نمنع كتابًا لطالب, ولا نرفض ذكر ولا أنثى ولا حتى نفضل مسلم عن غيره, ما لنا في الدنيا قد قسمه الله لنا, فمشاركة ضيف أو غريب أو طالب أو إمام هو قدرنا, فهذه الأرض لله, وهذه المكتبات لله, وكل ما فينا وما بنا ونحن من كاملنا وناقصنا لله, فلك ما لنا وعليك ما علينا, لا نريد وما نريد ولن نريد فالإرادة وحدها للخالق المالك القدير, فما نحن سألينك عن ماضٍ ولن نسئل عن مستقبل أو حاضر, فيا مرحبًا ويا آلاف المراحب يا والية الله, كلنا هنا أخوة كلنا هنا عباد لله.
  • ما يجد لساني ما يعبر عن الشكر والمن لك, فيا للبشرة, فنادرًا ما نجد عالم حكيم منصف تقي.
  • يوجد الكثير ولكن قصرت البصيرة عن معرفة الحقيقة, فلقد جاءنا باحث منذ ثلاثة شهور يبحث في مخطوطات التاريخ لشيء يخص شيخنا وسيدنا الجليل ابن عطاء الله السكندري, لسوف أخبره بوجودك لعله يجد ما يبحث عنه ولم يجده للآن.
  • يا أهلًا به وبكل طالب علم أراد المعرفة.

يقام آذان العصر, فيخرج الإمام وهم من خلفه حتى وصلوا لساحة رملية خالية يحيطها أبنية طينية دائرية الشكل صغيرة الحجم, فسألت عنها فأجابها الإمام:-

  • إنها زاويات للأخوات اللاجئات من كل أنحاء العالم.
  • كم عدد الأجنبيات الساكنات شنقيط.
  • في الأعوام الثلاثة الأخيرة, هل علينا ما يربو على ألف منهن الهاربة طوعًا ومنهن الفارة جبرًا.
  • هل لي أن أختلط بهم, أعلمهم ويعلمونني, فلي باع طويل في اللغات والمعرفة الثقافية بالشعوب الأخرى.
  • لك ما أردت وما أرادوا متي شئت ومتى شئن, فلا آمر ولا حاكم هنا, لكلٍ حريته, فليس مسئول عن المرء أمام ربه إلا ذاته وجوارحه.
  • سلمت يا إمام.

تركع الجميع العصر جماعة في ساحة الصلاة, ثم ولت الروح دبرها حتى وصلت للساحة السكنية للأخوات وأخذت تخط بأصبعها من قول شيخها على الرمال المذهبة؛

“الأعمال صور قائمة, وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها”

“ادفن وجودك في أرض الخمول, فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه”

“ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة”

“كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته؟ أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟”

ومع مرور الدقائق اجتمعن اللاجئات حولها يترقبونها, فلما انتهت من كتاباتها خاطبتهن بلغتها البديعة:-  

  • يا داخلات الحاضر معمرات المستقبل, العالم اتسع فتاه الناس وكدنا التيه معهم, إلا أنه أخصنا بفضله فأرشدنا للطريق لنكون الواصلات وما زال غيرنا تائه بعد, فما أنتن بفاعلات؟, أمكملات نحن أم ساكنات؟ لكل منا ميزة, كل لوحدها ما هي بناجية, وجميعنا سويًا ناجيات, فأي الطرق سالكات؟, نكمل لنعمر أم نصمت لنعشن هادئات هنا حتى يأتينا مواتنا؟

تعجبن جميع الواقفات, ولكنهن غيرهن, تعلم الروح جيدًا بما هن مقررهن, فليسوا عربيات ولا مسلمات عاديات ولدوا وماتوا مسلمات, وإنما لكل منهن قصة وكفاح ينطوي خلفها الكثير من الأسرار, فمن تركت البلد ومن تركت العائلة ومن تركت الولد ومن تركت الزوج ومن تركت المال حتى يصلن لهنا, ليسوا كغيرهن ولن يكن كغيرهن, فهن مسلمات عقلًا وبرهانًا ودليلًا وقلبًا وحبًا وإرادة فلا خوف منهن ولا خوف عليهن فما سلكن مثلهن طريقًا إلا واجتزوه على أكمل الوجوه, إنهن الحقيقيات من دون تلك المزيفات.

  • وأي الأفعال تقع من واجباتنا يا روحنا؟
  • ما خلقنا الله ولا أرشدنا للإسلام لنمكث هنا في ظلالات وقرف, وإنما خلقنا لنعبد إياه ونرشد غيرنا لعبادة إياه.

فتعالت الأصوات النسائية من كل حدب وصوب بلغات ولهجات متعددة:-

  • موافقة
  • معك
  • على بركة الله
  • إن شاء الله
  • فلنبدأ بإذنه
  • إنك على حق

شعرت بالرضا والثقة فعلى صوتها مستبشرة:-

  • إذن على بركة من الله في هذه البقعة وعلى هذه الرمال نضع أساس مدرستنا العطائية, فليكن سلاحنا روح القلوب ولنرى أي الفائزين الرصاص أم الإيمان؟