تؤضأ الجد كعادته لصلاة الفجر, وفي طريقه للخروج من المنزل, رأى نور هاتف ينبعث من غرفة حفيده بينما ترامى لأذانه أصوات مهموسة يسمعها بالكاد, فأيقن أن حفيده ما زال مستيقظًا في فراشه, فنادى به, إذ فجاءة تلاشي النور, وامتنعت الأصوات المرسلة, فصاح مجددًا ولكن هيهات هيهات, فصاح الثالثة وأتبعها بالرابعة والخامسة وقد علا صوته, فعلم الحفيد أنه لا مجال للفرار من ذلك العجوز, فأجابه متأففًا:

  • أوف أوف … حاضر يا جدي … سوف أقوم أتوضئ وأتي لأصلي معك….. هكذا كل ليلة تصطادني.

 فقال الجد وقد انفرجت أساريره لخبث حفيده:

  • قم… سأسبقك للمسجد… أهداك الله يا بني.

 وصل الجد ومن بعده الحفيد وصلى الجميع, بعد الانتهاء من الصلاة, نام الحفيد على ركبتي الجد الذي أخذ بدوره ملاعبة شعره, خطف الحفيد المسبحة من الجد كالعادة ثم سئل تلقائيًا وكأنه تذكر شيء ما:

  • ما جزاء من وقف بين يدي الله وهو ليس بطاهر البدن؟

 

فاصطكت أذنه لهذا السؤال وقال الجد منزعجًا:

  • ألست بطاهر الآن؟ ألم تتطهر بعد الاستمناء؟

فقال الحفيد على استحياء وقد أنكث رأسه خجلا:

  • خجلت أن أحدثك به يا جدي, ولم أغتسل خشية الماء البارد.

 

ثم ارتبك لشعوره بالذنب والإحراج فاعتقل لسانه.

صمت الجد لحظات قليلة, تذكر فيها تلك الأصوات التي كانت تنبعث من غرفة الحفيد قبل أن يصيح به, ثم جرى في خاطره كيف أن حفيده تغيرت معالمه الجسمانية مؤخرًا, فظهرت بوادر الرجولة به, مما يعني أنه دخل حقل المراهقة حديثًا, وهذا الحقل طرقه وعرة, فما أسهل الانحراف فيه عن الطريق الصحيح, وما أيسر وأسرع الانجراف للملذات والشهوات.

فقال الجد بنبرة ألطف في محاولة لربط جأشه:

  • يا بني إنك في مرحلة وعرة, فأنت بمفترق طرق به مسلكان لا ثالث لهم, سأحدثك بقصة توارثناها عن أجدادنا واحد يلو الآخر لعلك تعي منها شيء.

وأخذ الجد يسرد:  

  • في جزيرة مغمورة من بلاد الله الفسيحة, كان يعيش ويترعرع طالح الذي كان عمره آنذاك لم يتجاوز العشرين عامًا, طالح شاب نحيل الجسد ولكنه مفتول العضلات, قوي البنية, حسن المظهر, يجمع من البياض والوسامة الكثير, وهذا ما أفتن به الغالبية من نساء تلك الجزيرة, بينما هو كان حيوانيًا للغاية, فكلنا في البدء نؤتى من حيوان منوي, فهناك من ينضج ويضحى إنسان وهناك من يظل حيوانًا.

ما أن يرى طالح فتاة إلا ويشتهيها في نفسه, ويطلق السهام متتابعة على كل ما هو أنوثي بها, ومن ثم يتولى الشيطان باقي المهام, ولقد ساهمت تلك النسوة بالجزء الأكبر في تكوين عقليته المريضة والمهوسة, فنظرات المرآة أفصح سفير يعرب عما تتمناه.

فكان معسول الكلام, حلو اللسان, ولهذا فهو يمتلك موهبة نادرًا ما تتوفر في الرجال ألا وهي مجاراة النساء في حديثهن النسوية بكل تفاصيلها المملة, فمع الوقت والتقرب منهن أكثر وأكثر تمكن من تلك الراغبات وكانوا كُثر, فما ترك محبرة راغبة إلا وأغرس قلمه بها, فكرس حياته لهن, حتي أصبح في عقده الخامس بلا زوجة ولا ولد, فمازال يقضي ليله بين أحضان معشوقاه.

وذات ليلة بينما يضاجع فتاة عشرينية في فراشها, إذ بزوجها يحل على رأسهم كالقدر, فيستشاط غضبًا, فيضرب العشيق ضربًا مبرحًا, حتى حضرت أم الزوج على صوت صراخ ابنها, والتي تقطن الدار المجاورة, فوجدت ولدها وقد وجه لهذا الكهل وابل من اللكمات ومازال في طريقه للقضاء عليه, فشعرت بنار تتأجج بين ضلوعها فصرخت بولدها, كفى يا ولدي كفى, كفى بالله عليك كفى, سوف يقضي نحبه بين يديك, إنه أباك يا ولدي … إنه أباك. 

 

فتوقف الولد وقد ثبتت يداه في الأعلى كأُثر المفاجأة, أما هذا الكهل فشخص بصره وتجمد دمه ونسي آلامه وجراحه, فقالت الأم وقد اقتربت من ابنها بنبرة انكسار في محاولة استعطاف:

  • نعم إنه أباك يا ولدي, لقد أخطت معه منذ زمن فكنت أنت الحاصلة.

 

وقعت هذه الكلمات على الفتى كالصاعقة المجونية, فأصيب بصدمة, ويا لها من صدمة, فبعد كل هذا العمر يكتشف أنه ابن زنا, فأمه لم تعد الشريفة التي اعتدها, وذلك الأب الراحل ما هو إلا أبا مزيفًا, وهذا الكهل وجده بين أحضان زوجته, ولكن لم يعد هذا الكهل مجرد كهلًا وإنما أباه, فيا لها من فاجعة كبري!

مع هذه الفجائع والمصائب التي زاحمت فكره وعقله, فقد الابن النطق, ثم الوعي, ثم فقد الحياة للأبد.

بعد أن شيعت الجنازة وذهب الأهل والأقارب, انفردت أم الزوج بزوجة ابنها الراحل وأمها لكي تقص عليها ما حدث من ابنتها وأدى بحياة ابنها, في محاولة منها لتبرئة نفسها من قتل ولدها, فقد خابت وخسرت عندما ظنت أنه وقت الحق قد حان للكشف عن  الأمر الخفي, فخانها قلبها عندما أرهف لحالة طالح, وخانها عقلها ولسانها عندما نطقت بالحق فأظهرت للأبن الأب الخفي, فظهر الأب ولكن اختفي الأبن, اختفى للأبد. 

عندما اجتمعت بهما قصت على الأم ما وقع من ابنتها وطالح ذاك الكهل, وحاولت جاهدة أن تخفي الجزء الأخير من الواقعة, فتشجعت الزوجة العشيقة لرؤي الفصل الأخير من القصة في محاولة منها أيضا لتبرئة نفسها أمام والدتها, فكما أخطأت هي أخطأت أيضا حماتها من ذي قبل, ولكن لم يمهلها القدر وقتًا لتبوح عما في خاطرها, فإذ فجاءة انطلقت من الأم صرخة مدوية كرصاصة مشتعلة وقد توجهت لبنتها منفجرة بها:

  • أتضاجعي أباكِ؟

 فتح الحفيد فمه وهو متعجبًا مستنكرًا فكيف لهذه المواقف المعقدة أن تحدث!

فقال الجد مستغلًا ذهول واستنكار حفيده:

هذا هو العدل السماوي يا بني, لم يتب الرجل عن أخطائه الأولى المتعددة, فكانت نتيجته أن وقع في خطأ أجرم وأكثر إثمًا ألا وهو مضاجعته لابنته, أما ما هو أعظم ذنبًا من كل هذا أنه كان السبب في موت ابنه, فإياك ثم إياك أن يقع قلمك في محبرة ليست لك, سواء في الواقع أو في الخيال.      

___________

نشرت قصة القلم في المحبرة ضمن المجموعة القصصية عربي وأعجمي ورقيًا في مصر في 2020، وهنا القصة كما نشرت دون أي تعديل أو تصحيح.