اجتمع الأصدقاء للمرة الرابعة في مكانهم المعتاد، فبعد التحيات والسلامات والسؤال عن الحال وغيرها من الشكليات، يقول (س):

  • حقا أشتاق لكم أيها الرفاق, فأفضل ما في صداقتنا أنها طاهرة لا كذب فيها ولا خداع.

فترد (ص):

–      إنها صداقة صادقة، لأننا لما نُخير فيها ما بين الكذب والصدق، ولكن فرض علينا الصدق وحده.  

فيتابع (ع):

–      ولكن وأسفاه إنها مؤقتة!

فتقول (هـ):  

–      صداقتنا وقتية ومؤقتة, لأن المرء لا يشغله معرفة الحقيقة بقدر حبه لسماع ما يهواه قلبه.  

فيردف (س):

–      صدقتم أيها الرفاق, في تجمعنا اليوم كالمعتاد سنستمع إلى اثنين منا، واليوم موعد (ل) و(م)، فنبدأ بــ(ل) هيا أسرد علينا قصتك، ولكن تعجل قبل أن نفترق على صوت هذه الممرضة.  

 فيشرع (ل) في الحكي قائلًا:

  • هي سيدة جميلة أنيقة، محافظة على دينها وشرفها وزوجها، ولكنها في الآونة الأخيرة نفدت معظم ما تبقى من رصيد صبرها بسبب أفعال زوجها، وقررت أن تصارحه بما يشغل تفكيرها ويطير لبها ويثير الشك في قلبها، فلقد لاحظت هجره لها في الأيام الأخيرة، ونفوره منها في الفراش، وهذا لا يحدث من الرجل إلا إذا توفرت أخرى تقوم بهذا الواجب، لم تكن بالقوة الكافية حتى تطلق العنان للسانها لتواجهه بمثل هذا، ولكنها مرتبكة حائرة لا تعرف هل تعتبرها خيانة، أم له الحق فيما يفعل؟، فلقد مرت ست سنوات ولم يحدث أدنى تطور أو أي نتيجة إيجابية، وكان واضحًا جليًا أنه قد بدأ يعتزم في نفسه شيء.

وذات ليلة كان يتعطر أمام المرآة ليخرج ولن يعود إلا في الصباح كعادته، وكانت تنظر إليه عن كثب تترقبه ودمعتها ملاصقة خدها, وتكتم حسراتها في قلبها, وفي هذه الأثناء يحل القدر، فإذ بها تهوى على الأرض طريحة، بعد برهة من الوقت أفاقت وهي تشعر بغشاوة على عينها, فخيل إليها أن زوجها يجلس بجوار رأسها، وعلى وجهه ابتسامة لم تراها منذ فترة طويلة، ولهذا اعتقدت أنها تحلم غائصة في سبات عميق, فلقد رحلت هذه الابتسامة من زمن بعيد وحل مكانها وجه عبوس يطلق الآفات من آن لآخر، أفاقت من شرودها على صوته المبتهج قائلًا:

–      حمدًا لله على سلامتك يا زوجتي الحبيبة، لقد حدث! والله لقد حدث. 

ثم وضع يده على بطنها فأدركت علة هذه الابتسامة المفاجئة.

  وخلال الأيام والشهور التالية على عكس توقعاتها وما رسمته أنسجة أفكارها, فلم يتغير الكثير من سلوكياته، فكان يشفق عليها من حين لحين ببعض الكلمات الباردة، وألقى بها في حضن صديقتها لترعاها وتذهبا معًا لمتابعة الطبيب، بحجة أن صديقتها حامل أيضًا, وأن الطبيب أخيه.

 يتابع (ل):

  • وها أنا قريبًا سأبعث لهذه الدنيا، فأرجو أن أكون قدرًا سُخر لمساندة هذه السيدة وعونًا لها للانتقام من هذا السيد لحقارته وقسوته.

 ينتهي (ل) من سرد قصته، فتبادر (ص) موجهة كلامها لـ (م):

–      حان الان دوركِ، فقص علينا حكايتك.

فتقول (م):       

  • سيدة شابة ضاق بها الهجر, فالعمر يتقدم بها أمام أعينها، فهي ترى نفسها في المرآة كل ليلة وجسدها يذبل, فقد اشتاق للمس الرجال، وتتوقت روحها وحواسها للإحساس بالمتعة المشروعة، ومالت أذنها لسماع كلمات الحب والهيام، فكلما تنظر خلفها تجد ذاك السيد وقد أوهنه المرض، فلا يقوى على قول أو فعل, فلا ينهض من فراشه إلا لمتابعة الأطباء ومن ثم يعود لمرقده، وحينما تجتمع مع صديقاتها وترى كل منهن تبرز مدى حب زوجها وفحولته من أجل إشباع رغابتها وإمتاعها، لا تجد سوى أن تظهره كفارس الفتوحات، وهذا ليس لمظهره العام أمامهن، ولكن حتى لا ترى الشماتة في أعينهن.

تمر الأيام عليها بساعاتها الكئيبة ويزداد معها الوسواس، وفي آخر المطاف أخذت قرارها الحاسم ومن ثم بحثت عن من يناسبها, وما أكثرهم, فاختارت زوج صديقتها المقربة, لما تعلمه عنه من حرمان وفحولة, وبكلمة منها ثم بغمزة ثم بحركة وقع في فخها, فعاشت معه المراهقة المتأخرة والحرمان العنيف, حتى جاء اليوم الموعود, فبعد أقل من مائة ساعة على رحيل زوجها, وحيث يترنح عشيقها في فراشها, أصابت البويضة مرادها.

وتتابع (م):

  • فأتيت من صلب رجل وسأندرج تحت اسم رجل آخر، ولهذا أرجو أن أنتقم من تلك السيدة وعشيقها الذي أتكون الآن من صلبه.

  ساد صمت كئيب بين الأصدقاء تأثرًا بصديقتهم التي تعاني من محنة الهوية، وبعد برهة وصل لمسامعهم صوت الممرضة وهي تنادي بصوتها المبحوح:

  • مدام (ل) ومدام (م) تفضلوا الطبيب ينتظركم.

فيقول (س):

–        ولماذا تدخل أمهاتكم دائما معًا للطبيب؟

فيجيب (ل):

  • لأن أمهاتنا أصدقاء، والطبيب عمي. 

فتقول (م) لتفاجئ الجميع:

  • وعمي أنا أيضا.

فينظر (ل) بكل تعجب واستغراب لما قالته للتو، بينما يتهامس جميع الرفاق, أما السيدات فقامت متوجهات إلى غرفة الطبيب، فيسأل (ل):

  • ماذا تقصدين بعمك؟

فتتوجه (م) محدثة جميع الرفاق بصوت جهور:

  • أنا و(ل) في بطنين مختلفتين، ولكننا من صلب رجل واحد.

  وغابت الأمهات ببطونهن داخل غرفة الطبيب، فيهمس (س) بصوت متقطع مرتجف تظهر عليه أثر المفاجأة:

  • هكذا يعيش الجنين مننا مع أمه الحياة بتفاصيلها، فحينما يتحدث من بطن حاملته لا يقول إلا الصدق، ولكن إذا خرج، فإنه يبدأ الحياة الدنيا التي تورثه كذبها ونفاقها.

 فكم من حقائق علمناها في البطون و تركناها خلفنا مع الخروج؟!

_____________

نشرت قصة ميراث الدنيا ضمن المجموعة القصصية عربي وأعجمي ورقيًا في مصر في 2020، وهنا القصة كما نشرت دون أي تعديل أو تصحيح.