مرت عشرة أيام على انتقالهم لتوتي، على تلك الليلة المشؤومة التي كانت موعد المغادرة المتوقع، إحدى الجمع، تجلس رواية خلف المنزل بأحد المزارع الخضراء الجميلة في صحبة سماء، ومن حولهن نساء كل حي تجمعن في دوائر حيث يجلسن على الحصير، ويتوسطهن الصواني المليئة بالأكل والشاي والعصائر، والأشجار والنخيل من حولهن يتمخطرن ويرقصن علي أصواتهن الغنائية، فهي عادة نسوة توتي، الالتقاء كل أسبوع، بعد صلاة الجمعة، للغداء الجماعي، وللتشاور في أمورهن العائلية والخاصة، كما يقمن بجمع مبلغ محدد من المال لتغطية تكاليف اللقاء، والجزء الآخر يذهب لواحدة منهن طبقًا للقرعة التي تجريها أصغر طفلة بينهن، في أثناء متابعتهن لأنشطة هؤلاء النسوة، تحاول رواية مناقشة سماء في كثير من الأمور هنا وهناك، لعلها تفهم بعض الشيء مما يدور حولها، فمنذ تلك الليلة الموعودة، وبعد ما قاله المندوب الإلكتروني لم يحدثها أحد في شيء، ولكن يكسو وجوه الهياثم وقائدهم العام حزن أليم وحسرة وانشغال عميق، فهم في اجتماع دائم ومغلق، وفي أثناء جلستهن هذه تطلعت رواية لسماء بنظرات فاحصة ثاقبة ومتأملة ظلت عليها عدة دقائق أتبعتها بسؤال مفاجئ:

  • هل أنت حقًا ما زلت بنت التاسعة عشرة وليس أكثر؟

فضحكت سماء ملء شدقيها وقالت:

  • كثيرون من يقولون هذا، فما الذي أفعله غريبًا؟
  • كلامك دائمًا حماسي، حديثك مليء بالثقافة والمعرفة والاطلاع، هذه معلومات إذا قيلت فلا تخرج إلا من فتاة تخطت الخامسة والعشرين أو ما يزيد.
  • أنا لست مميزة ولا متميزة، فأنا فتاة طبيعية، هذا المفروض ما نكون عليه، انظري مثلًا للفتاة الفلسطينية التي لم تتخطَ العاشرة بعد، كيف أن لها لسانًا فصيحًا وقلبًا شجاعًا يرهب العدو المحتل.
  • تذكريني دائمًا براتشل كوري.
  • الأمريكية؟
  • نعم، هل تعرفينها؟
  • بكل تأكيد لقد قرأت عنها كثيرًا، أول أمريكية شهيدة تموت في غزة، ومن أجل غزة.
  • حينما كانت في الخامسة عشرة من عمرها، سافرت لروسيا، وفق برنامج تبادل الطلاب، وقالت في إحدى الحفلات:

“حلمي هو إنقاذ أربعين ألف شخص يموتون جوعًا يوميًا، من الممكن لحلمي هذا أن يتحقق بمشيئة الرب، إذا نظرنا للمستقبل وشاهدنا له النور الساطع، وهذا النور قد ينطفئ إذا تجاهلنا الجوع والقهر”.

سرحت سماء قليلًا في الكلمات، ثم قالت:

– لقد كانت محقة تمامًا، ولقد عملت بهذه القناعة إلى أن انتقلت لجوار ربها.

– أول رسالة كتبتها لوالدتها بعد أن وصلت رفح مع أصدقائها الثمانية في محاولة بائسة منهم لمنع التعدي الصهيوني الغاشم على سكان رفح وغزة قالت فيها:

“لا كتب، لا جرائد، لا أفلام تستطيع أن تصف ما رأيته أنا بعيني هنا في فلسطين”.

– هذه كانت شهادة أمريكية منصفة، أما حكامنا في حينها كانوا يخرجوا علينا ببياناتهم التي تفيد بعدم الافتراء والكذب على المحتل بارتكابه تجاوزات، فالمحتل يحتلنا بعدل!

– كم كان يؤسفها ويحزنها موقف العرب وحكامه من القضية الفلسطينية، ماتت راتشيل بغزة بعد شهرين فقط من مكوثها في فلسطين، كان عمرها 23 عامًا فقط.

– كلما رأيت صورتها وهي تموت يكاد قلبي أن ينفطر، كيف كانت لها الشجاعة أن تقف أمام المجرفة الإسرائيلية كدرع بشرية حتى لا يهدم البيوت، وكيف لهذا الحقير الصهيوني لم يرحمها، لم يفكر فيها، في أهلها، في أصدقائها، في براءتها، في شبابها، في حبيبها، وإنما مشى فوق جسدها ذهابًا وإيابًا بدم بارد، آه يا زمن، آه منك وآه عليك، فبقتل هذه المسكينة قتلت الإنسانية بأسرها.

– كانت تبحث دائمًا لكي تفهم دور أمريكا في العالم، ودائمًا ما كانت تبحث عن إجابة لسؤال أرقها وأرهقها كثيرًا، لماذا يكرهوننا؟

في هذا التوقيت، كان قائد المجامع وعلا على مقربة منهم، فقالت علا وقد بدأت أكثر أريحية عن أيامها السابقة:

–       فيما تتحدث الجميلتان؟

–       نحكي عن راتشيل كوري

فلما سمع قائد المجامع الاسم، تغير لون وجهه كثيرًا، قائلًا بصوت خافض:

  • يا ربي، لقد ذكرتموني بالحبيبة.

سكت قليلًا، ثم استطرد:

  • بعد أن قتلت، وعلمت بقصتها، ذهبت لوالديها بأوليمبيا، الواقعة بولاية واشنطن’ وكنت حينها في مأمورية قريبا منها، تقمصت شخصية صحفي حتى أتعرف عليها أكثر، وأعرف عن هذه الفتاة الشجاعة الجانب الخفي من حياتها وما لا ليس بمعلوم عن شخصيتها، كان والدها رجل طيب شجاع، لقد كان صحفي ميداني يغطي حرب الفيتنام، وقد زرع في بنته الكثير من المبادئ الحسنة السوية العادلة للمدافعة عن حقوق الأقليات والوقوف بجانب الأضعف، وهي اختارت الوقوف بجانب فلسطين، لأنه الجانب المعتدي عليه والمحتل من قبل الصهاينة، ولذلك حينما قررت السفر لفلسطين لم يعترض والدها، أعطتني والدتها مذكرتها التي كتبتها أثناء تواجدها بغزة، أول ما قرأته كانت رسالة لصديقتها الفلسطينية الجديدة التي تعرفت عليها بمجرد وصولها فلسطين، ولما أحببتها كثيرًا أقامت معها بمنزلها، ظنًا بأنها كأمريكية لن يجرؤ الصهاينة على إيذائها، فكانت تأكل معها من طبق واحد مقتسمين رغيفًا واحدًا، كما كانت تنام معها على الأرض متلحفين ببطانية واحدة.

أخرج قائد المجامع محفظته، وسلب منها قصاصة صغيرة، ملطخة بالدماء، دمائها الطاهرة، ثم قرأ:

  • رسالة إلى صديقتي الفلسطينية، والتي هي كل فلسطينية:

“أنت جميلة من الداخل والخارج، كنتي لطيفة جدًا معي، لديك قلب حنون جميل، ولكن يا حسرتاه حياة الناس هنا صعبة، صعبة جدًا، فعلينا وعلى العالم أجمع أن يشعر بالخجل مما يحدث هنا، كما أن عليه أيضًا أن يتأثر ويتعلم من الأشخاص الأقوياء أمثالك، سأفكر بك دائمًا وأبدًا يا عزيزتي، اتبعي أحلامك، ثقي بنفسك دائمًا، ولا تستسلمي، حاربي عدوك الصهيوني الضعيف والمتخلف، ناهضي من أجل حريتك، مع حبي واحترامي”.

تأثر الجميع بشدة من كلمات الشهيدة راتشيل، شهيدة الإنسانية، فقالت سماء:

  • هذه شهادة أمريكية في وصف فلسطينية، ولكن أنظر اليوم للسياسيين العرب!

فتابعت رواية بتأثر واضح:

  • دائمًا ما كانت تبحث عن معنى لحياتها.

فاستغلت علا حال رواية لتطرق على حديدها الساخن:

  • ألا تبحثين أنت أيضًا عن معنى لحياتك؟

تفاجأت رواية من قولها، فارتبكت قليلًا قبل أن تجيب بثقة:

  • دائمًا كنت أبحث عن معني لحياتي، ولقد وجدته حينما اهتديت للإسلام.
  • الإسلام في حد ذاته ليس هدفًا، وإنما جعل الله الدين في العموم طريقة لإعمار الكون وترسيخ المبادئ الإنسانية.
  • ماذا تقصدين؟ إلى أي شيء ترمين؟
  • هل تقبلين بالعمل معنا؟
  • إذا رفضت، ما العقاب؟
  • لا شيء، ولكن عملك معنا ليس سوى إنقاذ لأنسيموس، فهو في خطر، خطر كبير، وأنت وحدك القادرة على إنقاذه، بل إنقاذ الإنسانية.

ساد صمت تام طويلًا، رواية تفكر في الأمر بجدية، من كل الجوانب، وما هي عواقب كل من القبول والرفض، وبينما الآخرين يترقبوا نتيجة تفكيرها وقرارها الذي يترتب عليه الكثير مما خططوا له، بعد التفكير هنا وهناك لم تجد رواية سوى وضع مبدأ واحد لقرارها أي كان، وهو إنقاذ أنسيموس بخلاف ما هي الطريقة، فقالت للجميع بإقدام:

  • إذا كان عملي معكم في صالح أنسيموس فأنا معكم قلبًا وقالبًا، وإن كان الأفضل للأنسيموس هو ضدكم، فأنا ضدكم وعدوتكم للأبد.

تفاجأ الجميع من هذا الرد القوي الشجاع والحازم، وعاد الصمت ثانية ولكنه لم يطل حيث قطعته الهيثم البكر بقولها:

  • إذا فلنبدأ في تنفيذ خطة ستنا لبيبة.

فسألت رواية:

  • لا أرى الدكتور علاء، فأين هو؟
  • لقد حلق في الهواء ليتجول في بلاد الله الفسيحة استعدادًا للعملية القادمة، فأمامنا مهمة ليست هينة ولا يسيرة.

فقالت سماء وقد تقدمت من رواية لتودعها:

  • والآن دوري، فأنا راحلة وقريبًا سنلتقي، في رعاية الله يا رفاق.

نظرت علا لرواية وقائد المجامع وقالت:

  • ونحن سنعمل معًا لحين أن يشد كل منا رحاله، فكلنا راحلون عاجلًا أم آجلًا، كلنا يا رواية.

شعرت رواية بالقلق والتوجس، أحست بوجود رسالة غامضة في مضمون كلامها.

قال قائد المجامع ليقطع التفكير وليبدأ أول خطوة في تنفيذ ستنا لبيبة:

  • الطائرات في الانتظار، علينا الرحيل.

فتعجبت رواية من قوله الطائرات وانزعجت، فسارعت علا لشرح الأمر:

  • إحدى الطائرات سوف تنقلنا أنا وأنت فقط للمكان الآمن، والطائرة الأخرى سوف تقل فريق المجامع المتحدة، وفي الساعة المحددة سنلتقي، لا تقلقي طالما أنا في رفقتك.

وأقلعت الطائرات.