أثناء رحلتها على متن الطائرة الدبلوماسية المتجهة لمصر، لم تتمكن من حبس عقلها عن التفكير أو حتى تحجيمه، فهي في حيرة من أمرها لا يحسد ذهنها عليها، طَرق تفكيرها كل الاحتمالات، وخطر ببالها كل التوقعات، حاولت إعمال عقلها ولكن هيهات هيهات، فأين أنسيموس؟ وهل هو في خطر حقًا أم لا؟ إذا كان في خطر كيف ستساعده؟ هل هو في إسرائيل؟ هل هو في أمريكا؟ هل هو في أوربا أم في آسيا أم أفريقيا؟ عجز عقلها عن التنبؤ بشيء أكيد، إلى أن هبطت الطائرة الأراضي المصرية، ولكن في أي أرض مصرية هبطت؟! في قلب الصحراء الغربية، مطرح لم تعرفه ولم تعتده من قبل، مَربَع وكأنه لوحة لفنان سطر كل ما فيها بدقة وإبداع فائق الجمال، أرض تفوح بالشموخ والعراقة الفاخرة، واحة كبيرة مليئة بالنخيل والحقول المخضرة، والمباني البدوية البسيطة منتشرة هنا وهناك، كما واضح من على بعد صلابة أطلال عالية مشرفة، وقد تجمعت بعض من النسوة البسيطات، تحت نخليها، تغني موالًا:

دنيا قديمة ما تدوم لوالي

يا طول ما هدت من قصور عوالي

دنيا قديمة ما تدوم لوالي

تخرب العامر وتبني الخالي

أخبرتها علا بأنهما نزلا الواحات الداخلة، بمحافظة الوادي الجديد، وتحديدًا في قرية القصر الإسلامية.

لاحظت رواية، وهن في طريقهن لعصارة الزيتون، بأن القرية تعج بالسياح بالرغم من اختفائهم من جميع الأماكن السياحية المصرية الشهيرة، راجلين متنقلين في حب وترحاب، يعيشون حياتهم الطبيعية وكأنهم هاربين من العالم وصخبه ليقضوا أيامهم في هدوء وصفاء، هي أيضًا أحبت المطرح هذا كثيرًا، فهناك أماكن من الوهلة الأولى نشعر معها بالارتياح، وبأننا عشنا وقضينا الأيام والأعوام نكافح في هذه الدنيا حتى نصل إلى هذه الجنة الأرضية لنستقر بها ما تبقى من الحياة، بعدما وصلوا مقر طاحونة عصر الزيتون، انتظرت علا اختفاء السياح والأهالي من حولهن وتسللت لأسفل الحجر فانتزعت كيسًا قماشيًا به ورقة بردية مغلفة فقرأتها:

“عز يدوم وسعادة لا تنقضي، وبلوغ ما تهوى النفوس وترضي، وسعادة مقرونة ما دام يخلط أبيض في أسود”، فأدركت علا خطوتها التالية، وهي البحث سريعًا عن المكان الذي تشير إليه هذه الكلمات الحكيمة، فأخذت رواية واتجهت في طريقها للعثور على نقطة الالتقاء، أما في الواحات الخارجية، وعلى بعد 90 كيلومترًا منهن، اجتمع شيخ الصقارين بكل من الصاقر المصاب وقادة المجامع المتحدة والمطارح المنبثقة لما يربو على أربع ساعات متواصلة بمقرهم الآمن بصرح المعماري حسن فتحي، معماري الفقراء، بقرية باريس.

وصلت علا ورواية مقر بيت القاضي حيث وجدوا الكلمات المتفق عليها وقد زينت الوجهة الأمامية، فدخلتا، وكان الشيخ والصاقر وقائد المتحدة في انتظارهن، وبعد ساعة خرج الجميع ما عدا رواية التي لن تخرج منه للأبد.