في شرفة القصر العتيقة، وإن كانت متهالكة ولكن يظهر عليها عبق التاريخ، حيث قصة وأنس يلاعبان طفلهما الرضيع، وتجلس بجانبهم الخالة توحيدة مشرفة القصر، التي تلبي احتياجاتهم وتعمل في خدمتهم، يطل أنس بعينه في الأفق البعيد المعتم ليسترجع الأحداث التي مرت على مدى العام، ويتذكر كيف أدخله جهاز أمني السجن بلا وجه حق، وكاد أن يموت لولا رعاية قصة له، ثم يخرجه جهاز أمني آخر وهو يعتذر له عما حدث من جرم في حقه وحق قصة وحق الرفاق، وحينما سأله أحد القادة الكبار بالجهاز عن كيفية وآلية تقديم الاعتذار المناسب لرفع اللوم عنهم وليعوضهم عن الفضيحة الكبرى التي لحقت بهم ظلمًا وبهتانًا دار الحوار الآتي:

  • ترى القيادة العليا أنه يتوجب علينا حمايتكم وتقديم كل السبل والآليات لتعويضكم عما اقترف من جرم وذنب في حقكم.
  • لسنا في حاجة إليكم ولا نريد منكم شيئًا سوى أمرين، يتم نشر تكذيب عن كل ما لحق بنا من تلفيق، والآخر الاعتراف بزواجنا رسميًا.

فتفاجأ القائد المسئول وقال في تعجب:

  • نشر تكذيب مستحيل، ولكن لا أفهم ما تعنيه، ماذا تقصد بزواجكم؟
  • عندما جمع بيننا وبين بقية الرفاق معًا في زنزانة واحدة في الأيام الأواخر لمحبسنا، تناقشنا بعناية جيدة وبنظرة مستقبلية فيما أوقعه القدر علينا من بلاوي ومصائب، وخرجنا بنتيجة واحدة يقينية لا شك فيها، ففقدنا الأمل كل الأمل في خروجنا جميعًا سالمين من هذا الجحر الثعباني، فعقدنا العزم وأخذنا الخطوة المفترضة والوحيدة أمامنا لتنقذ الناجي منا أمام المجتمع وأمام نفسه ولنتعهد على أنفسنا الارتباط الوثيق ببعضنا البعض في الضراء قبل السراء، فحللنا على أنفسنا ما اتهمنا به باطلًا، فعقد كل رجل منا القران على إحدى الرفيقات.

فنظر القائد بذهول منقطع النظير في جميع المتراصين أمامه، واختص قصة بنظرة خاصة في تساؤل منه عن مصيرها وهي، على حد علمه، كانت على المسيحية، فأجابته قصة بثقة وبلا مبالاة واضحة:

  • ما زلت على المسيحية، وسأظل للأبد خادمة للمسيح، ولكن هذا لم يمنعني من الزواج بأنس.
  • ولكن كيف تزوجتم بلا مأذون أو شهود؟
  • الزواج الشرعي هو العلانية في محيط الزوجين، ونحن محيطنا غرفة من أربعة جدران، فاتخذنا من بعضنا شهودًا وقرأنا الصيغة، وبارك الله لنا وعلينا.

صدم القائد من هذا التفكير الجبار والشجاع، ولكنه تذكر قصتهم الأصلية وكيف تحدوا الواقع الطبيعي الذي يعيشون فيه، فليس بالعسير عليهم تحدي الأمن والسجن وضربهم بالمجتمع عرض الحائط، وبعد الاجتماعات الكثيرة والمناقشات الفياضة في القيادة العليا، تقرر توفير مبالغ مالية وتأشيرات سفر لجميع الرفاق على حسب رغباتهم، إلا أنه فرض على أنس وقصة عدم مغادرة البلاد في الوقت الحالي، وإخضاعهم لأجل غير مسمى في مسكن إجباري إذا ما كان كلاهما ما زالا راغبان في استمرار زواجهم والاعتراف به، وهو ما اتفقا عليه أنس وقصة في آخر الأمر، وكانت القيادة تشعر بأن بقاء أنس وقصة داخل مصر وتحت عيون الصقور أمرًا هامًا وضروريًا قد يحتجان له في المستقبل القريب أو البعيد.

لم يقطع على أنس ذكرياته المؤلمة والمملة سوى سؤال قصة للخالة توحيدة لتحكي لهما شيء من قصصها حتى تؤنس وحشتهم، فأخذت الخالة تقص على مسامعهم قصة حقيقية طريفة متواترة سمعتها من والدتها عن جدتها فسردت:

– في بدايات القرن العشرين، حيث الاحتلال البريطاني لمصر، كانت تشتهر بلدتنا هذه دير مواس، الكائنة في شمال صعيد مصر، بإنتاج العسل الأسود ذي الطعم الجذاب المتميز، وكان هناك رجل يدعى عفيفي بن عفاف، حدثته زوجه ذات ليلة فقالت له:

– والله إن لاسم أبيك تعيس فياله من اسم نسائي، وإني قد رأيت في منامي لو لقبت بعفيفي بن أبي زيد، على غرار أبناء العمدة زيد، أشراف البلد لزاد عليك الخير كله.

فاقتنع بحجتها، ومن ثم أخذ يشتهر بين الناس بلقبه الجديد، عفيفي بن أبي زيد، كان يشتغل بصناعة العسل، فيصنعه ومن ثم يرسله للقاهرة للبيع، وكان قد اختزن كمية كبيرة منه فقالت له زوجه:

–       رأيت في منامي، أن العسل غالي الثمن لأنه شحيح في الأسواق، فباكر ترسل كل ما لديك إلى القاهرة.

فأعد العدة، وعند بزوغ الفجر أمر عماله، فحملوا الزلع إلى محطة السكة الحديد، وكان عددها مائتي زلعة، أخذ ينتظر القطار وبعد برهة قصيرة من الزمن، تزاحمت على المحطة جموع غفيرة من البشر، فسأل عن سبب التجمع فأجاب أحد المتجمعين:

– اليوم ميعاد مرور قطار الضباط البريطانيين عائدين من السودان.

– لقد كان موعده البارحة.

فأجابه الرجل فرحًا:

  • لقد تعطل في أسيوط بالأمس، فقدر لنا اليوم أن نتظاهر أمامه لنعلمه بمطالبنا.

فرد عفيفي مرتبكًا:

  • ولكني والله أشعر بأنه قدري وقدر عسلي.

ثم ألقى بصره على الزلع المتراصة حول سكة الحديد في خوف وقلق واضح ثم أردف:

  • من أميركم فأحدثه؟

فقال الرجل مشيرًا بأصبعه بعيدًا:

  • إنه هذا، خليل ابن أبي زيد.

فتحير عفيفي وشرد وقال في نفسه:

  • ما شأني وشأن هؤلاء، لقد انتحلت لقبهم، ولو ذهبت إليهم لعلهم ينحرون رأسي، فلنصبر وننظر ماذا تخبئ لنا هذه الساعة.

أخذ ينتظر، وكلما اقترب ميعاد القطار تزداد جموع الناس، بينما هو يزداد قلقًا ويرتجف قلبه، وظل هكذا حتى أتى القطار، وتحولت المسيرة الشعبية السلمية إلى ملحمة ثورية حقيقية، قتل فيها الضباط البريطانيين التسع، وما كان على الثوار أسهل وأيسر من قذف القطار بالزلع، فلم يبقَ من أثره شيء، فعاد عفيفي إلى بيته جارًّا قدميه بالانكسار والخيبة فاستقبلته زوجه صائحة:

  • ويحك يا عفيفي، ما أعادك بطولك لا شيء أمامك ولا خلفك؟

فسرد عليها ما حدث، وناموا، وفي الصباح جاءته بمنامها:

  • اطمئن، فلقد رأيت في منامي البارحة بأن أبناء أبي زيد سوف يشيدون ببطولتك في الملحمة الثورية لفقدانك عسلك، وسوف يكرمونك بأفضل التكريم والتشريف والتقدير.

أخذ بمنامها على أمل تحقيقه قريبًا، وكان حينما يسير في الطرقات يرى الناس تهمس لبعضهم البعض، وكأنهم يشيرون إليه، ولكن كانت تصبره قائلة:

  • اصبر يا قعودي، فلقد رأيت في منامي بأنه سيأتي منهم من يكافئك بأضعاف ما خسرت من عسل وفقدت من مال.

مرت الأيام القليلة وفي إحدى الليالي، قرابة الفجر، دق الباب فأيقظته قائلة:

  • قم لترى من بالباب، لقد رأيت في منامي الليلة بأن أبناء أبي زيد جاءوا ليعوضك عن عسلك.

فقام مستبشرًا فرحًا لفتح الباب، فوجد القوات البريطانية هي القارعة، فأخذوه، وترحل للمحاكمة العسكرية هو وثمانين معه لمشاركتهم في قتل الضباط التسع، وبعد قرابة شهر نُطق الحكم بالإعدام على 7 فقط من المتهمين، ثلاثة هم أبناء أبي زيد بك وثلاثة من أولاد عمومتهم، والسابع هو عفيفي بن أبي زيد.

فسأل عفيفي القاضي مستنكرًا:

–       ولمَ أنا؟!

فقال القاضي متعجبًا:

– ألست ابن أبي زيد؟

– لا والله، ما أنا بابن أبي زيد.

فقال القاضي البريطاني مستخفًا به:

– فمن أنت إذن؟

– أنا من اختلط عسله بدمائكم، ويا ليته كان اختلط بدمائها.

فقال القاضي بحزم:

  • بدماء من تعني؟

فقال بحسرة وانكسار:

  • من كان منامها دليلي.

أضحكتهم القصة طويلًا، حتى قال أنس:

  • نحن إذن في دير مواس؟
  • نعم نحن في دير مواس التابعة حاليا لمحافظة المنيا.
  • لقد قرأت ذات مرة بأحداث القطار الصعيدي الذي ذكرتيه في القصة ولكن لم أكن أعلم بأن هناك من أعدم في هذا الحادث.

فتابعت قصة باستعجاب واستنكار:

  • وأنا لا أعلم أي شيء عن هذا التاريخ، ولا هذه الأحداث والإعدامات.

فقالت الخالة بحسرة:

  • إنهم رجال ونساء صنعوا التاريخ فنسيهم التاريخ يا بنيتي.

ثم أخذها الصمت قليلًا، تشخص ببصرها في إحدى أركان الشرفة، قبل أن تستطرد:

  • في مكانك هذا يا بنيتي كانت تجلس ستنا لبيبة كل ليلة، وأمامها الشيشة الخاصة بها، وكانت الشيشة للسيدات آنذاك في الصعيد لا حرج فيها، وكان دومًا في صحبتها خليل بن أبي زيد حيث يخططان لمقاومة الإنجليز، وهو ما نتج عنه ما حدث في 18 مارس الذي أصبح عيد المنيا القومي فيما بعد.
  • خليل هذا هو زوج لبيبة؟
  • لا الدكتور خليل هو ابن زوجها، أبو زيد، أثناء دراسة خليل في بريطانيا العظمى تزوجها العمدة وكانت ابنة شيخ الأزهر آنذاك.
  • نحن في قصر العمدة إذن؟
  • نعم نحن في قصر الشهداء الأحرار، قصر سيدي العمدة أبو زيد.

فسأل أنس في لطف لا يخفي شغفه:

  • هل تستطيعين أن تقصي علينا هذه القصة بإيجاز، فلديَّ فضول لمعرفة هذا التاريخ المثير والمنسي من ذاكرتنا وكتبنا؟
  • أرسل العمدة ابنه خليل لدراسة العلوم الزراعية في إنجلترا، فعاش هناك وخالط الأجانب وتعلم التحضر والتمدن ورأى الحرية الحقيقية ومارسها، وحينما عاد لمصر وجد الاحتلال الإنجليزي الغشيم كاد أن يقضي على الأخضر واليابس، ويكاد الفلاحون يموتون جوعًا، فانشغل بأمرهم، وكان والده أيضًا معاديًا لسياسة الإنجليز علانية وسرًا، وكان يبغضهم بالرغم ما كان لديه من الأراضي والدور والقصور والمخازن المليئة، فكان ينفقها على الفلاحين ليل نهار، ودومًا ما حاول مقاومة الإنجليز، وكانت تشجعه على ذلك زوجته الثانية الشابة لبيبة، الجميلة الأنيقة، بنت شيخ الأزهر، كانت متفتحة مثقفة متعلمة تحب الحرية والكرامة وتبغض الاستعباد والذل، وكانت علاقة ستنا لبيبة بالدكتور خليل قوية، منذ أن كان بإنجلترا، فبعد أن تزوجت من العمدة وساكنا بمصر، ولمعرفتها بالكتابة ولحسن قلمها، كانت تكتب الخطابات التي يرغب في إرسالها العمدة لولده، ومع الوقت وُلد داخلها رغبة في تزويج خليل من دولت، أختها من أمها، فبدأت تكتب له أخبارها وترفق معها الصور من خلف أهلها وزوجها، وهذا ما أدى إلى تعميق العلاقات وتوطيدها بينهما من قبل أن يتقابلا وجه لوجه، وحينما عاد خليل لمصر، قرر العيش بدير مواس، ثم عاد العمدة لموطنه بلبيبة، فبنى لها هذا القصر الجميل بأفضل المهندسين والمعماريين الأجانب، فكما ترون اليوم روعته وإبداعه من كل زواياه.

أطبق الصمت بعض الوقت سرحت فيه الخالة توحيدة في فخر واعتزاز في أحداث 18 مارس ثم أردفت:

  • هذه الأحداث المجهولة للأبطال المنسيون مهدت لصنع أكبر وأهم حدث تاريخي مصري ألا وهو ثورة 1919م، بل هي تاريخ في حد ذاتها، تاريخ مستقل، مشرف، عريق، كما أنه عزيز علينا، ولكن واأسفاه فلقد نُسي من التاريخ، بل سرق ومزق من صفحات الكتب لأنه لم يجد من يدافع عنه وينادي به، مثله مثل الكثير من الأحداث التاريخية العريقة في مصر والتي طويت في صفحات التاريخ المنسية، علمنا وسمعنا أن سيدي عباس محمود العقاد كان ينوي تسجيله وتأريخه، وقد شرع بالفعل في تجميع مصادره، إلا أن القدر أبى علينا هذا الشرف، فحرمنا منه، وانتهى أجلنا بانقضاء أجل عقادنا.