الفصل الأول في الجزء الثاني لرواية بحر النور والتي نشر تحت عنوان روح القلوب. 

___________

  • يقول شيخنا عليه وله منا كل الرضا؛

“أرح نفسك من التدبير, فما قام به غيرك عنك لا تقم به أنت لنفسك”

التدبير يا صواحبي ثلاث, منه المطلوب ومنه المباح ومنه المذموم, التدبير المطلوب هو تدبير ما كلفت به من واجبات وما فرض عليك من طاعات بشرط تفويض المشيئة وهي ما تسمى بالنية الصالحة, والمباح أيضًا تلزمه المشيئة إلا أنه في أي أمر دنيوي, أما التدبير المذموم فهو تدبير أي أمر بدون تقديم المشيئة, وخلاصة القول في التدبير ما قاله الشيخ أبو الحسن الشاذلي؛ إن كان ولابد من التدبير, فدبر ألا تدبر, ومما أنشده سيدي ياقوت العرشي؛

    ما ثــم إلا مــا أراد                        فاترك همومك وانطرح

   واترك شواغلك التي                 شـغلـت بـهـا تـسـتــرح

  • لماذا يا روحنا لا ننشغل بالتدبير؟
  • لأن الانهماك فيه ما هو إلا انطماس للبصيرة, ولهذا يخبرنا شيخنا عليه وله منا الرضا؛

“اجتهادك فيما ضمن لك, وتقصيرك فيما طلب منك, دليل على انطماس البصيرة منك”

فالتدبير يا صواحبي مضمون لأنه من أفعال الله, فلماذا ننشغل به!, فالأفضل الاهتمام بالمطلوب منا أي العبادة والطاعة, وكما قال شيخنا عليه وله منا الرضا؛

“سَوابق الهمم لا تَخرق أَسوار الأَقدار”.

انفض المجلس العطائي إلا من شابة قروية مليحة الوجه دامعة العين قاضبة الجبين حاضنة لرضيع, فأخذت تخطو بهدوء هيبة وإجلالًا نحو رُوح القلوب يائسة شاكية من الحمى التي أهلكت ولدها متوسلة الدعاء لعل الله إن لم يستجب منها فسيستجيب لروح الشيخ ابن عطاء الله السكندري, فالتفتت إليها الروح برفق ورأفة مؤدبة لها:-  

  • خبتي وخسرتي يا مولولة, فشيخنا يقول؛

“لا يكن تأخر أمد الإعطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبًا ليأسك, فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك لا فيما تختاره أنت لنفسك, وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد”

ثم أرفقت يدها اليمنى على جبهة الطفل لتقرأ السبع المنجيات, وإذ تعم “أم الربيع” بأسرها الزغاريد من كل حدب وصوب, والزغرودة الجماعية لا تنطلق في أم الربيع إلا مرة واحدة سنويًا حين موعد العودة الكبرى, عودة رجالها, فقرى أم الربيع الكائنة بالأطلس الممتد في بلاد المغرب العربي من دون جميع قرى العالم التي تظل طوال العام بدون رجال, قرى نسائية, فما يبلغ ذكورها الثانية عشر حتى يركلون للخارج بحثًا عن عمل أو شبه عمل, فطبيعة القرية الجبلية لا تجعل للرجال رزق بداخلها, ولهذا فحال الزوج شامل لم يختلف عن غيره, فبعد وصولهم أم الربيع واستقرارهم بها, ترك روح القلوب مع روحانياتها وخرج بحثًا عن العمل.

خرجت القروية برضيعها لتستقبل غائبها الذي ما رأى طفله لليوم, فما أشقاها تلك الحياة التي تمنع الزوج عن زوجه والإبن عن أبيه, بينما رُوح القلوب أدارات وجهها للقبلة ورفعت يداها بالدعاء ناشدة متوسلة؛ إليك يا من كتبتني عندك مؤمنًا وأنت الذي كتبت في قلبي الإيمان, أدعوك أن ترد لي ما تبقي في دنياي سالمًا غانمًا, فالكل زال, البلد والناس, الأهل والأصدقاء, الأخيار والأشرار.

  • لقد عدت يا روحنا بفضله وحمده.

فرنت إليه سريعًا, ولم تخجلها هيبتها ومكانتها الجليلة من أن تركض في اتجاهه مهرولة حتى تستقبله بأحضان دافئة اشتاق كلاهما إليها, عاد زوجها بعد هجرة مريرة ومغيب طويل, ولكنه لم يعد بمفرده, عاد حاملًا طفلًا رضيعًا بين ذراعيه, بعد ثوانٍ محصورة ومحدودة استغرقتها في الفرحة والاغتباط, بدأ يظهر لها هذا الطفل الذي حسبته كخيال أو ظل يتراقص, ولكنه كان حقيقة, حقيقة بينة واضحة لا تقبل الشكوك, شرعت أنسجة خيالها في بناء الظنون, وجميع ما ظنته قابل للتصديق, فالزوج غائب عنها ما يربو عن العام بأيام قليلة, فمن المحتمل ظهوره مجددًا بطفل, لا غريب في هذا, وعندئذ بدأ شامل يشعر داخله بمرارة ما تمر به مما يظهر جليًا على ملامح وجهها النورانية, فأخذ ينبهها بلسان متلعثم:-

  • بالله عليكي لا تسيء الظن بي.

فقاطعته بحزم:

  • أوضعك هذا يقبل الظن أو الشك؟
  • روحنا, احذري أن تظلمي فما ظلم أكثر منا, ألا تتذكرين الضيق الذي اشتد بنا في مصر؟

يا لها من كلمات مريرة على النفس والقلب والعقل, كيف له أن يذكرها بهذه المحنة العسيرة, كيف وقد حذرته مرارًا, فهذه المصيبة لم تمحى من مخيلتها أبدًا, فلا يمر نهار أو تقمر ليلة دون استحضارها في ذهنها, وإن كان القلب والعقل دائمًا في انشغال بها تأبى أذنيها سماع ما يتعلق بها, بدأت تهدئ نفسها من الداخل وإن حاولت إظهار ملامحها على غير ذلك, فجلست على منبرها الطيني بواجهة القبلة وبيدها مسبحتها الخضراء الطويلة, فاقترب منها شامل ومد يديه بالطفل مرغبًا:-

  • تلقي يا رُوح القلوب الطفل في حضنك واشتمي فيه راحة ماضينا.

تعجبت لقوله واشتد فضولها, ولكنها أمسكت بالطفل بين ذراعيها فقبلت رأسه وضمته إلى صدرها, وما رأى شامل هذا حتى اطمئن قلبه بعض الشئ وجلس بجوارها وأخذ يستميلها مستعطفًا:-

  • حبيبتي وروحي وروح كل قلب صافٍ ونقي, استمعي لي بقلبك وعقلك, مستحضرة روحك القديمة مندمجة مع الحديثة, فالمستقبل بين أعينك والماضي مستوغل في قلبك, فما أقوله لك الآن هو تاريخ منه ما مضى والكثير منه ماضٍ فيما بعد.