على أبعد نقطة بيابسة أفريقيا المتصلة ناحية الغرب التي تطل على المحيط الأطلسي حيث شبه جزيرة الداخلة التابعة للصحراء المغربية كما تريدها المغرب أو جمهورية الصحراء العربية الديموقراطية كما يريدها شعبها والذي يمثله سياسيًا وعسكريًا جبهة البوليساريو (الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب Frente Popular de Liberación de Saguía el Hamra y o de Oro), والتي تأسست في 1973م, والمدعومة بشكل كامل من الجزائر, والمغضوب عليها بشكل كلي من المغرب والمصنفة بالإرهابية كمثل أي معارضة في بلادنا العربية, في حين أن سكانها البالغ نصف مليون يعيش أسوء الظروف الاقتصادية والمعيشية والصحية في هذه البيئة معدمة الظاهر غنية الباطن المرغوب فيه من الجميع, غير أن السلطتان المغربية والجزائرية تتاجران بهما في الأوساط العالمية على مدار أربعين عام غير معتبرين لتلك الأنفس التي من حقها تقرير مصيرها, وهي قضية سهلة ممتنعة لأنها نتاج افتعال من الجانب الجزائري والمغربي على حد سواء إمتدادًا للخلافات المستجدة والمتجددة بينهما منذ استقلالهما عن المحتليين الفرنسي والإسباني, والتي يستنكرها أي عربي من غير محيطمهما, فلماذا تتخاصم وتتنازع المغرب والجزائر وتقوم بينهما كل هذه الخلافات وما يجمعهم أكثر مما يفرقهم بكثير, فوحدة الأصل والدين واللغة والعادات تجعل من المغرب العربي شاملًا تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا والصحراء قوى كبرى مؤثرة ومحركة للشأن الأفريقي بالكامل, غير تقوية جبهتها الداخلية في مواجهة الأيدي الخفية والقوى الناعمة لفرنسا وإسبانيا المتواجدة حتى اليوم والمحركة لكثير من الأحداث والقرارت.  

بمجرد وصول الصاقر لميناء الداخلة استقبلته الفرديات الصحروية بالسيارة السياحية المجهزة ليتجه جنوبًا بعيدًا عن المدينة والأحياء الشمالية سالكًا طريق الميناء الرئيس إلى أن وصل لنهاية اليابسة شرقًا في غضون 23 دقيقة حيث مدرسة تعليم ركوب الأمواج بموقعها المتميز الخلاب والتي تشتهر بها الداخلة عالميًا ويأتيها السياح الرياضيون من جميع الأنحاء والبلدان, والمعروفة في لهجتها المحلية بالركمجة, والتي حجز بها الصاقر كسائح رياضي لتدبير المقرات الآمنة بعيدًا عن مناطق النزاع المسلح ولحساسية علاقة القاهرة مع العواصم المغاربية المتنازعة في الأمر, وبعد أن استلم الصاقر الخيمة خاصته على الشاطئ غاص في نوم عميق, وما أكملت الساعة دورتها حتى أيقظته الفرديات لرسالة عاجلة مفادها اختفاء سماء والعقل وبعض من الأدلة ترجح ارتباطها بطبيعة عملها مع القبة, فاعترض على ذهاب علا لرواية في هذا الوقت مبلغًا إياهم:-

  • العدو متربص بنا, ما أراد إلا إزعاجنا حتى نقع في خطأ يمكنه من تعقبنا مرة أخرى.

وأصدر تعليماته بصدد هذا الشأن, وصول الهواء العليل إليه من كوة الخيمة شجعه على مغادرتها وقطع رحلة النوم ليستلقي على الرمال اللامعة بفعل ضوء القمر محلقًا ببصره  في ذاك الذي يشبهه في مراقبة الجميع على حقيقتهم, وأثناء تأمله في سر القمر وجماله تذكر تلك الليلة المشابهة في القاهرة مع أم إسحاق بينما كانت تروي له القصة الأعجب في حياته وإن لم تكن الأعجب في حياتها بعد قتلها هي وصديقتها نهرو آبائهم وأمهاتهم وحرقهم بمراكبهم, فبعد أن أخبرته باتجاه كل منهما لصنع حياتها بنفسها سألها الصاقر:-

  • وكيف صنعتي حياتك؟
  • كانت حياة طفولتنا مشتركة, وحياة مراهقتنا مشتركة, ولهذا كتب علينا أن نكمل الفصل الأخير فيها مشتركة.

لاحظت عليه علامات الحيرة والاستفهام فتابعت مسترسلة:-    

  • بعدما حدث ما حدث, خرجت أنا ونهرو من الماء لنجد أنفسنا على الشاطئ, ولم يسبق لنا التعامل مع العالم الخارجي إلا في حدود الحياة المدرسية, فأخذتني قدماي لمتجر عيسى ذاك الذي دافع عني وتوطدت صداقتنا بإشارات الأعين في الذهاب والإياب, فوجدناه وقد أغلق غالبية باب متجره تجنبًا لآثار الفتنة الواقعة في المنطقة التي غالبًا ما تصيب المسالمين أكثر من المشاكسين, فقصصت عليه مجمل حكايتنا فلم أجد منه إلا كل إشفاق وإحسان مع استنكاره ونفوره من فعلتنا, وعرض علينا العمل معه في متجره مقابل المسكن والمأكل, وإن كانت زوجته لا تكمن كامل المحبة لنا مثله ولكن تفهمنا الأمر على أنه غيرة كطبيعة نسائية معتادة, وقد علمنا بمظهرها الحجابي أن عيسى مسلم.

ولكن نهرو بطبيعتها المغامرة والجريئة أرادت اكتشاف الدنيا فلم تحرر من عبودية الوالدين لتوثق نفسها بقيود عمل أو صاحبه, فخلفتني من وراها وسعت في اليابسة الواسعة كما كانت تسميها, ومرت الشهور وبدأ عيسى يميل لي بنظرة تلو النظرة حتى عرض الزواج بي مقابل أن أسلم, أو حتى أتنصر فهو أهون عليه من أن أكون كافرة بكل الآلهة, إلا أنني رفضت اعتناق أي دين خوفًا من الالتزام ومسئولية العبادة, فالحرية أو الانحلال كما يحب أن يسميها المؤمنون لها بريق خاص, وكنت أتوقع أنها السعادة الأبدية, فما تركت شئ حرمته اليهودية إلا فعلته, وما تركت شئ حرمته المسيحية إلا فعلته, وما تركت شئ حرمه الإسلام إلا فعلته, إلا أنني ما أدركت اللذة والسعادة سوى لحظات وتنقضي وأكون أتعس البشر, فبالرغم من كل ما قمت به وما مارسته من شهوات بمجرد نظرتي لمؤمنة حقيقية من أي دين تعبد ربها كانت تضيع كل لذاتي ولا أتمنى إلا أن أكون كإحدى المؤمنات هؤلاء, وفي تلك الفترة من التخبط الفكري والتناقض العقلي إذ بنهرو تعود وتنقلني لمرحلة جديدة وحياة مختلفة, حياة المال, المال وفقط, أخبرتني بقصتها وكيف أنها وجدت دينًا للأغنياء والالتحاق بطائفته مربح ماديًا لما يقدمه من رواتب وامتيازات من أجل الإيمان به…

فقاطعها الصاقر مستفسرًا:-

  • أيهم؟ لأن لدينا الكثير منهم في هذه الأعوام الأخيرة, فلا نعلم كم دين وكم طائفة ستخرج علينا قريبًا.
  • طائفة الأدفنتست Adventist هل تعلم حقيقتها؟

أطرق الصاقر رأسه قليلًا ثم قال بتحسر:-

  • الأدفنتست!, وهل يخفى الشر, أنشئت بأمريكا وللأسف سمح لها بالتواجد في مصر قانونيًا, بدأت بقرية بني عدي بأسيوط إلى أن أصبحت 16 كنيسة حاليًا, ترأسهم الكنيسة الأم برمسيس, وهم على عكس جماعة “شهود يهوه” الممنوعة قانونيًا في مصر ولكنها تتواجد سريًا عن طريق الأدفنتست, ولهذا حاربهم البابا شنودة كثيرًا ومازالت جميع الطوائف المسيحية لا تعترف بهم دينيًا, وإن كانت الدولة تعطيهم الحق في ممارسة الشعائر وإقامة الكنائس!.

سكت الصاقر وسرح بخياله قليلًا وعندما انتبه إعتذر لنيلوس راجيًا منها أن تكمل قصتها, فواصلت حديثها:-

  • ما فهمته وقتئذ من نهرو أن الإيمان بها وإعتناقها يقوم على الكثير من المكأفات والمرتبات التي جذبت راغبي المال حتى وصلوا في مصر لألف شخص بالرغم من تكفير جميع الكنائس لهم, ومع تظاهر نهرو بالإيمان والاندماج في مجتمعهم استطاعت أن توقع في شباكها أحد قساوستها الكبار والمسئول التنفيذي بالمكتب السري وهو ملياردير كعادة معظم الملتحقين بمثل هذه الطوائف, الذين يريدون احترام الناس لهم وتقديسهم مقابل ما يهبونهم من مال في شكل من أشكال العبودية الحديثة, ولكن اكتشفت نهرو بعد الزواج منه بوجود مرض في الرحم مما يمنع الحمل الطبيعي أو حتى الحقن المجهري مما يحرمها من الإنجاب, ولهذا بناء على نصيحة الطبيب فالحل الوحيد هو تأجير رحم حيث يقوم المختبر بزرع حيوانات الأب وبيوضات الأم داخل رحم الأم البديلة, والتي طلبت مني أن أكون أنا الأم البديلة فلم تجد أقرب مني لحفظ السر, فوافقت بعد تفكير طويل مقابل مليون دولار لمعرفتي بغنى زوجها الفاحش, ولتجربة هل سيحقق المال السعادة الأبدية كما أرجو أم لا!.
  • ومن المؤكد كان إجراء الفحوصات الطبية وعملية الإخصاب خارج مصر لأنها محرمة دينيًا وقانونيًا, ولا توجد دول تسمح بها قانونيًا ودينيًا في الشرق الأوسط إلا إيران والكيان الصهيوني.
  • بالفعل, فمن خلال سلطة زوجها الدينية والمالية سافرنا بكل يسر وسهولة لإسرائيل, وكانت المفأجاة لي أن المشكلة لم تكن في الرحم فقط ولكن كانت في بويضات نهرو والتي أخفت الأمر عن زوجها حتى لا يهملها أو ينفصل عنها, ففهمت مقصدها بأن يتم التلقيح ببويضاتي على أن تنسب إليها مع أنني سأكون الأم الحقيقية ولست البديلة, وللأسف وافقت بعد أن عرضت عليّ مليونًا أخر خلسة عن زوجها, وبكل صراحة في تلك الفترة لم أفكر من الناحية الدينية أو الإنسانية أو حتى الأمومة, كل ما كان يسيطر علي أن أمتلك المال, المال فقط, فأخذوا مني البويضات وسجلوها باسمها بدون أي اعتراض أو مانع من قبل المستشفى فهناك كل شيء متاح, وحملت من زوجها وأنجبت للدنيا طفلة نقية جميلة تحمل كل الصفات الرائعة, وأتذكر تلك الليلة التي عدنا فيها لمصر في مطار القاهرة الدولي حيث رآها والدها لأول مرة وسألنا عن كيف كانت الرحلة وماذا فعلنا وكيف كانت عملية الإخصاب فارتبكت نهرو خوفًا من أن أبوح بشئ فقالت لزوجها بطريقتها الجريئة والفكاهية؛ هذه البنوتة قصتها قصة,

ولهذا علق بذهنه الاسم فسماها بقصة.   

تعجب الصاقر وفوجئ بالتفاصيل الغريبة والمتداخلة وإن كان على علم بأن نيلوس, أم اسحاق وأم رواية, هي والدة قصة أيضا, ولكن لمعرفته بما هو أعجب وأغرب حثه ليسألها في عجالة لمعرفة تفاصيل البقية:-  

  • وماذا بعد؟
  • كانت نهرو مصابة بالسرطان وهذا ما منعها من الإنجاب, ومضى شهر وراء شهر إلى انتقلت للسموات, وأوصتني بتربية قصة ومن ذلك الوقت وأنا أعتبرها ابنتي, إلا أنها في الحقيقة ابنتي, واستطعت أن أقربها مني خاصة بعد أن أهملها أباها بعد معرفته بالحقيقة, فاتجه لحياته وتزوج وأنجب, أما أنا فتأثرت وتألمت كثيرًا بموت نهرو, ولم أجد السعادة المرجوة التي كنت أظنها في المال, ولهذا وافقت على الزواج بعيسى لأنه كان محب بصدق ومخلص لي دوما, وقبلت طلبه باعتناق الدين على أن أجرب بداية باليهودية إلى أن أصل لما يعجبني ويقنعني أكثر, وتزوجنا ومضت الأعوام وبجانب إهتمامي بقصة وسؤالي عنها الأسبوعي أنجبت اسحاق إبني الأكبر ومن بعده حملت في ابنتنا إلا أن زوجة عيسى الأولى قد عرفت بزواجنا فاقتحمت منزلنا ذات ليلة وفي يدها طفلهما وهي غاضبة حانقة عليه وإذ بالكلام يأخذ مجرى التهديد والوعيد بين كلاهما إلى أن حدة الغضب زادت مما دفعها لركله بقوة فسقط من النافذة قتيلًا, وكنت قد أخذت إسحاق وخرجت من الغرفة ومعنا ابنهما أنس!, وبعيد شهور قليلة خرجت ابنتنا للنور, وعندما رأتها قصة في زيارتها لي سألتني عن تسميتها فقلت لها؛ إن كانت لحكايتك قصة فلحكايتها رواية.

كان الصاقر وصل لحالة تعجب ودهشة بلغت أقصاها أما نيلوس فلم تمهله وقتًا لإستيعاب الأمر وأردفت:-

  • أما والد قصة فبعد أن اعترفت له نهرو بالحقيقة على فراش الموت لم يستطع أن يجفو على ابنته وإن أبعدها عنه بعد أن تجوز وأنجب, ولكن ما ترك نوع من العذاب إلا وأسقاني إياه أنا وابني إسحاق وهذا ما دفع إسحاق لينتقم لنا من بنته كلارا, كلارا أخت أنسيموس!!.

فأحجم الصاقر لسانه, وأمسك رأسه بكلتا يديه لتحملا معه بعض من الصداع الذي أصابه, فلم يعد يعرف من أخ لمن ومن أخت لمن.