كم لهذا القصر من رائحة تاريخية تفوح من بين جدرانه, تتخيل رواية في هذه الغرفة أو تلك التي كان يناقش فيها خليل لبيبة بعد أن عاد من إنجلترا وكان أول مصري يلتحق بجامعة أكسفورد عام 1912م لدراسة الزراعة, لا تستطيع تفسير تعلق قلبها بخليل ولا حتى عقلها الذي يعجز عن فهم نظرية خليل الخاصة, فكيف لمثله بعد أن تعلم في بريطانيا العظمى وكان مرشحًا ليكون ناظرًا للزراعة لدراسته ودرجته العلمية من أعرق الجامعات العالمية أن بعد عودته بأربعين ليلة فقط أن يقود أهم وأكبر حدث صعيدي في سلسلة أحداث ثورة 1919, لماذا لم يفضل تبعية الإنجليز؟!, لماذا لم ينطوي تحت جناح المحتل والمغتصب تحت أي اسم من الأسماء المزيفة التي يبررون بها بيع الوطن والدين؟ لماذا وقف أمام أكبر وأهم وأقوى قوة عسكرية في ذاك الزمن؟ هل فعل هذا حقا من أجل الفلاحين, أم من أجل نفسه؟, ألم يعرف إنجليزيات هناك, ألم يعشقهن؟ أم حبه لدولت كان أعظم, ألم يتعلم الرقي والتحضر في المأكل والملبس؟ أم التقاليد الصعيدية كانت متوغلة في قلبه وعقله؟ ما هذه الشخصية الفريدة والعبقرية في ذلك الزمن العصيب, أغلب زعمائنا الوطنيين قاوموا المحتل لما رأوا البلاد عليه, أما خليل فانقلب لما رآهم عليه, هذا النفاق الواضح في حياتهم وفكرهم وعلمهم, في بلادهم صنعوا كل ما هو خير ونفع وأسسوا مبادئ الحرية والكرامة والتكافل, أما في بلادنا فصنعوا وأسسوا كل ما يؤدي للخراب والذل والظلم, ألسنا بشر مثلهم, أم هم بشر ونحن بشر, هذا ما أدى بجدنا المصري والصعيدي الدكتور خليل الذي لم ينجب أن يقاومهم ويكافح من أجل هذا الفلاح الذي هلك وأهلك في ذلك الزمان.

تحاول رواية عبثًا فهم شيء من المخطوطة التي بين يديها, والتي يصعب عليها التعامل معها لعدم دراستها وخبرتها في التعامل مع المخوطات الأصلية, فليس الفضول وحده هو ما يجعلها تجاهد في فهمها, بل الملل أيضا الذي ساد قصر العمدة بعد مغادرة كل من الصاقر وعلا وعلاء, ومغادرة أنس وقصة بصحبة طفلهما, مطالبين إياها بالصبر لحين ترتيب الأمور المتعلقة بالخطة الموضوعة, وبينما هي كذلك, إذ بالخالة توحيدة تدق الباب دقًا سريعًا لتخبرها بوصول مرسال بأمر عاجل, فتلهفت للقائه سريعًا لعل تجد خيرًا معه مما يخبر عن الحاضر الغائب أو يكشف عن المستقبل المجهول, ولكن أول ما قاله لا يبعث على الخير كالعادة:-

–    عليكِ الذهاب لمطار أسيوط في الحال.

–    سوف أفعل, ولكن ما الأمر؟

–    الأمور لا تسير بخير, كل ما عليك فعله الآن الذهاب لهناك بمفردك وهناك ستجدين من يرافقك.

–    لا, هذا مستحيل! كيف لي أن أصل لهذا المكان.

–    هذه أوامر الصاقر, اذهبي كغيرك من الناس, سوف ينقلك توك توك بالقرب من محطتي القطار والسيارات ومن هناك تعاملي مع الأمر بتلقائية. 

–    لماذا تتركونني بمفردي هكذا؟

–    هذا من أجل حمايتك, في هذه الفترة أفضل مخبأ لك هو بين العامة, فهيا أحزمي أمتعتك في الحال للمغادرة.

وصلت رواية للموقف الكائن أمام محطة القطار, وبين ترددها بين القطار أو سيارات الأجرة, لاحظت سيارة أجرة كتب على زجاجها الأمامي ديرمواس – أسيوط, وكانت السيارة في خطواتها الأولى لتسلك طريقها الأسيوطي, وكان واضحًا أن المقعدين الأمامين المجاورين لمقعد السائق فارغين, فهرولت نحوها مسرعة لكي توفر على نفسها الكثير من الوقت في الانتظار, وحينما توجهت للسائق تبين أنها أنثى, فلم تمنعها المفاجأة من طلبها, فأجابتها السائقة:-

  • وددت لو أن ألحقك بي, ولكن عذرًا فأنت ترين إبني المريض بجواري.

وألقت الاثنتان نظرة عابرة للصبي ثم توسلت رواية:-

  • أنا في عجالة من أمري, أتمني أن تأخذيني معك لحالة طارئة.

فكرت قليلًا قبل أن تجيب:-

    –  لست ممانعة, لا أحد يرفض رزقه, من الممكن أن تصطحبينا ولكن عليك أن تحملي إبني بجوارك راعية له طوال الطريق.

    –  على الرحب والسعة, أشكرك.

دنت الأم إبنها لصدرها لتيسر لرواية الجلوس ثم ردّته لموضعه, أخذت رواية تلاعب الصبي لتخفف ألآمه ومن حين لآخر تلقي نظرة له ونظرة للأم, ومن داخلها تتعجب لتلك الأنثى التي تقود الميكرو باص متحدية الواقع والمجتمع, وإن لم يكن هذا غريبًا عنها فهي تذكر ذات مرة أنها رأت سيدة تقود تاكسي بالإسكندرية, ولكن في الصعيد أمر غريب بعض الشئ, مع تكرار نظرات رواية لها, بادرتها بالحديث:-

–    لماذا تتعجبين هكذا وتنظرين لي بهذه الغرابة؟

–    أعتذر منك, لم أرد مضايقتك وإنما فضولي يلح عليّ.

–    لا عليك, كل من يرأني لأول مرة ينظر لي نفس النظرة.

كانت على مقربة من كمين الرحمانية الشرطي المعروف بحزمه, فأخرجت ورقة نقدية بقيمة مائتي جنيه وأطبقتها بين يديها وما أن وصلت للمطب الصناعي حيث يقف الأمين حسن, فأعطتها له في يديه بخفاء, فقال متعصبًا:-

–    ألن ننتهي كل أسبوع من مناقشة هذا الأمر, ما هذه القروش التي تعطيني إياها؟

–    سامحني يا حضرة الأمين, خذ خمسين وأوصله مائة وخمسون جنيه.

–    لا, بالنصف, سوف أخذ مائة وأعطيه مائة.

–    كما تريد يا سيد الناس, المهم طمئني كيف حاله؟ أصحته جيدة؟

–    لا تقلقي, إنه في أتم صحة, أنا سمعت أنهم سوف يترحلون إلى سجن الوادي الجديد الأسبوع المقبل.  

–    هل انتدب له محام؟

–    المحام مصاريف زائدة بلا أي طائل, الجميع أحكامهم صادرة ومصدق عليها من قبل أن يتم ضبطهم, الجميع في عداد المغضوب عليهم ولن يخرج أحد منهم إلا حينما تزول هذه اللعنة.

أنهى الشرطي كلامه وأشار إليها بعينه بما يفيد التحرك حتى لا يلاحظهم أحد, فتركته خلفها وأكملت سيرها في الطريق الذي لن ينتهي, وبدأت عيناها في السكب مما أعجب رواية فلم تتخيل أن هذه السيدة التي تصمد هكذا في مواجهة المجتمع أن تبكي بهذه الحرقة واللذعة, ونظرت لإبنها فوجدته يغوص في النوم وقد تكوم في حضن رواية المرتجفة والقلقة, فقالت لها مطمئنة بعد أن كفكفت دمعها:-

–    لا عليك, لا تقلقي, أنا بخير.  

–    هل لي أن أسئلك عمن كنت تتحدثين؟

نظرت لطريقها وبعد برهة قصيرة قالت:-

–    إنه زوجي, بعد الأحداث الأخيرة قبض عليه كما قبض على غيره, ولهذا أعمل سائقة أجرة حتى أنفق على بيتي. 

–    أي أحداث؟

–    أحداث جمهورية دلجة المحروسة.

–    هل عم الظلم والطغيان في دلجة حتى يطال الناس لهذا الحد الجنوني؟

–    نعم الظلم طغى حتى طال الأغلبية وذهبت ناس لا ناقة لها ولا بعير, ولكن زوجي أحتسبه ليس بالمظلوم, لقد رزق على قدر ما نوى, فهو تاجر متوسط الحال, ذو لحية, يبدو ملتزم, دوما ما يتطلع لمستوى أعلى وحال أفضل, ممن يلتفون دائما حول ساسة  القرية في المصالح والانتخابات, وإن كانت قريتنا لها شأن كبير في الرقعة السياسية المحلية فالأغلبية من أهلها ليس له اتجاه محدد, كل وله طريقته كالمصريين عمومًا, فبعضهم من أهل التعريض الصريح والتطبيل العلني والبعض الآخر من المعارضين علنيًا المعرضين خفيًا, فالمصالح والإنتفاعات الشخصية هي من لها فصل الخطاب في تحديد أي اتجاهات النفاق يسلك. 

انشغلت بالحديث عن الطريق فغدر بها, وإذ بالسيارة تقف رأسًا على عقب لتغرق في دمائها بينما إبنها ورواية في حالة أقل سوء منها, فأوصت بالطفل وأسلمت الروح لخالقها أو هكذا رأت رواية التي انشغل عقلها في كيفية الخروج من الميكرو باص المنقلب وحاولت جاهدة حتى استطاعت أن تتسلل للخارج بصحبة الطفل المريض, وبمجرد خروجها اقتربت دراجة بخارية تابعة للمثلث العشري كانت تسير عن بعد لحالات الطوارئ, فنقلتهما سرًا لمطار أسيوط حيث تنتظرها علا التي بررت لها ما جرى باختطاف سماء, فأحزنها كثيرًا ما حدث لهذه البريئة, صغيرة السن كبيرة العقل, وأخبرتها رواية بالطفل المجهول وقصته والذي أفزعه وأجزعه موت والدته فعقل لسانه, فأوصت علا المثلثات بنقله للمستشفى ورعايته والاهتمام به.

ما كان يشغل رواية أثناء ترحالهم المجهول كالعادة, سماء, مستدعية كل الأحداث التي وقعت بينهم وتلك المناقشات والدعابات التي تتذكرها جيدًا, وأثناء رحلتها داخل ذكرياتها تذكرت تفصيل هام, فالصابونة التي عثرت بداخلها على تلك الورقة المندسة أثناء تواجدهم بزنجبار أخذتها من سماء أثناء تواجدهم بماردين, فأخبرت على الفور علا الجالسة بجوارها, فتوقف عقل الأخيرة عن التفكير كلية واختلطت بداخلها كل الأمور وأصبح صعبًا عليها دراستها, فهي مشتتة بين تأمين رواية ونقلها للمقر الجديد, وما تخفيه قصة اختطاف سماء, وغير كل هذا, ذاك الحبيس وما يتلقاه من تعذيب, فشعرت علا لوهلة بأن الأمور تسودّ ولابد لها من تحجيم للإمساك بزمامها من جديد.