غادر شامل فجأة حلقة الأحيدوس المفتون بها منذ أن قدم “لأم الربيع” لسحر أشعارها وموواليها الأمازيغية وإن كان لا يفهمها إلا أنه يتأثر بها ويتفاعل مع إيقاعها, فلنغمة الكلمات فعل ساحر عليه وعلى كل من يستمع إليها لأول مرة, بينما كانت رُوح القلوب جالسة في ثوبها الأبيض في خلوتها الفضائية وناظرها متعلق بالسماء وما يضيئها من نجوم, بينما يدها تربت على الطفل وتغرد مناجية؛ “إلهي, ما أرأفك بي, فما الذي يحجبني عنك؟!, ثم أحدقت بعينه البريئة باسمة متأملة وتلت من محفوظ الحِكم؛“ما من نَفَس تُبديه إلا وله قَدَر فيك يُمضيه”, ومن المعلوم للجميع أثناء مناجتها الليلية لا يقطع خلوتها أحد, ولكن اضطر شامل للمرة الأولى بالاعتذار منها مبلغًا إياها بأن الأحباب توافدوا, فقامت إليهم وإذ تقع عيناها على رواية, فإذا باللقاء بعد الفراق يشتعل وتبكيان, كانتا وحيدتين, إحدهن شمس والأخرى قمر, ولكن كل في زمانها ومجراتها, حتى اجتمعتا من قبل فتوحد قطبي النور, وإذن قد اجتمعتا ثانية, فالتقت أعينهن واجتمعت قلبوهن واشتمت كلتهما من عطر الأخرى, يا له من اشتياق, اشتياق يتجمر, وظلتا محتضنتين نائمتين على أكتاف بعضهن البعض طوال الليل, وبعد الترحاب والضيافة الروحية من روح القلوب وزوجها شامل وهما اثنين من الرفاق التسع, علا ورواية تتعجبان وتفرحان وتشعران بأحاسيس متداخلة متضاربة, تفرحان لما يروا على الروح من ملائكية روحانية جميلة تفوح بالجنان, وتتعجبان كيف ومتى هذا؟, ولكن حياء رواية منها صدها عن توجيه أي من هذه الأسئلة, فلم تعد مجرد تلك صديقتها, بل استقر بداخلها أنها تستحق لقب الروح حقًا,

فلقلبها روح ولعقلها روح وللسانها روح ولعيناها روح وكلها أرواح طاهرة تقية تبعث على الأمل والتفاؤل والطمأنينة, فكم النقاء والطيبة التي تخرج من روح قلبها, أم الأرواح جميعًا, ولكن مع أول انفراد بشامل لم تكمل رواية دورها في تمثيل وتصنع الصبر, فانفجرت بسؤالها الفضولي:-

  • كيف هذا يا شامل؟

فما كان من شامل إلا أن نظر إليها بنظرة عابرة لا تحمل أي معنى ثم ألقى بعينيه في المحيط المتسع حوله ولا يرى أمامه شيء, وإنما طغى الماضي عليه بحذافيره, فلم ينتج من لسانه إلا أنه قال بعد برهة طويلة من الصمت:-

  • جميع التفاصيل التي سبقت معرفتها بالشيخ ابن عطاء الله السكندري لا تهم, وكل التفاصيل بعد معرفته تتجسد اليوم أمامكم في التعامل والحديث والروح العائشة بيننا.

ففهمت رواية مقصده, إذن خضعت لتجربة وعاشت معها.

*******

تعلقت الروح بأنيس الذى أَنَس حياتها, ولذلك عندما علمت بأنه راحل معهم أمسكت في نفسها دموعها الحزينة, فصبرتها رواية بقولها:-

  • لا تحزني يا روحنا, فالله سيرزقك من شامل بأفضل منه.
  • لا علم لنا بهذا, أليس خطرًا عليه ما ستقومان به؟
  • لا حيلة لنا إلا هذه, وإن كان لأغلى الناس ممن تبقوا لنا.
  • إبن الأحبة, دومًا ما كنت استنشق روائحكم منه, فكم اشتقت لقصة وأنس وأنسيموس وبقية الرفاق جميعًا, سيروا على بركة من الله, يقول شيخنا؛ “الرجاء ما قارنه عمل وإلا فهو أمنية“, وإن شاء الله ستعودون سالمين غانمين لنجتمع كلنا ثانية.

ثم أمسكت بصندوق خشبي صغير الحجم مطرز بأشغال يدوية متناسقة ذي ألوان زاهية, وأمدته لها بعد أن قبلته قائلة:-  

  • اجعليه معك, لا يشغلنك عنه أمر, في كل يوم خذي ورقة, لعلها تملئ صدرك وتؤنس وحشتك.

ثم نظرت إلى حيث تجلس علا وصاحت بها بلهجتها الرقيقة:-

  • اقتسمي الإمام معها حتى يقسم بينكم الخير كما قسم بينكم الزمن والمسار.

   ثم ابتعدت عنهما بثوبها الفضفاض الطائر وانطلقت بعيدًا, بينما اقتربت علا من رواية, وافتتح الصندوق فأخذت كل منهما ورقة, ففضت رواية خاصتها فوجدت مكتوب؛

“متى أوحشك من خلقه فأعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به”

أما علا فوجدتها؛

“لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرَّحى يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل عنه, ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون”