أتى حمدي وحنفي من مصران الصعيد لهذه القرية السياحية الفخمة الكائنة بمدينة 6 أكتوبر الفارهة للعمل كأفراد أمن, طوال عهدهم بهذه الوظيفة الرتيبة لا يملكوا سوى إشعال راديوهم المذبذب المتهالك, فليس في إمكانهم استخدام الهواتف الذكية وتفحص الشبكة العنكبوتية, فكانت عادتهم الدائمة وهم جالسين أمام البوابة الخلفية مقر عملهم أن يتسابقوا في الرماية بأن يتقاذفوا بكل ما تصل إليه أيديهم, في محاولة منهم لكسر الملل والروتين اليومي, وذات ليلة بلا قمر استدعاهم المدير, فذهبا الاثنين مسرعين الخطى, وبعد دقائق معدودات من المثول أمامه, اختفى الاثنين, اختفى كلاهما ولم يشعرا بشيء, وظلا هكذا طويلًا.

 شعر حمدي بعد وقت لا يعلم كم طال ولا كيف قضاه بماء بارد يتقاذف عليه, فأفاق من غيبوبته الذهنية, ولكن بقى حاجب أسود يعصم عيناه, سمع خطوات تجول حوله, ثم صمت كل شيء ثانية, انطلقت بعد برهة قليلة أيادي كبيرة ضخمة اتجاهه, تتساقط على قفاه صفعة تلو الأخرى, بعد عدد لا بأس به من الصفعات واللكمات توقفت الأيادي عن مزاولة مهنتها التي من الواضح أنها اعتادتها كثيرًا فهي تتعاقب بلا كلل ولا ملل.

 في تلك الأثناء وصل لأنفه رائحة سجائر مشتعلة, وفي حينها شعر بأيدي تلامسه, فأرتجف, ولكن هذه المرة كانت لخلع العصامة, فتطلع بعينين زائغتين من أثر النور المفاجئ, ولكنه استطاع أن يرى كل ما حوله, فالجالس أمامه رجل ثلاثيني وقد لبس بدلة بغير رباط عنق, ويشعل سيجار بين شفتيه وقد وضع مسدسًا على يمينه راقدًا على الطاولة, أما البقية فهم ثلاثة رجال ينتشرون في الحجرة وقد أخفت شواربهم جزء كبير من وجههم العبوس, أما الأجساد فحدث ولا حرج, بعد هذه الجولة الصغيرة بعينيه المرتجفة علم تلقائيا أين هو, وإن لم يكن يخطر بباله ذات يوم أنه من الممكن أن يحل به, فهذا المكان تعود رؤيته فقط في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية, تمنى من أعماق قلبه أن يكون تفسيره خاطئ,  ففي مثل هذه المواقف والحوادث يأمل الإنسان بكل صدق أن يكون على خطأ ويتمنى من أعماق قلبه أن يخالف القدر ظنونه, راغبًا في وقوعها حلمًا لا حقيقة. 

 تنفث الرجل الكائن أمامه من سيجاره الكوبي الفاخر نفثًا عميقًا ثم أطلق العنان لدخانه ينبعث في الهواء كما يشاء, ولكن تجمعت ذرات الدخان كلها في اتجاه حمدي وكأنها تعلم طريقها جيدًا, شعر حمدي بضيق صدره من أثر الدخان ولكن كيف له أن يسعل أو يبدي ضيقًا, فأستقبلها في نفسه بكل حب وترحاب, واحتضنها داخل رئتيه بكل مودة وحنان, فكيف لضعيف في مثل حاله أن يتذمر.

 توارى وجه السيد الجالس بين دخان سيجاره وهو يقول بنبرة حازمة:

  • أعتقد بأنك تفهم جيدا أين أنت, إذن تعرف ما هو المطلوب منك, الإجابة على كل أسئلتي ولابد أن تكون إجابة صحيحة صادقة, فأنا لا أحب الكذب, فالكذاب يا حبيبي يدخل النار, ونحن نريد لك الجنة.

فقال حمدي عفويًا بشيء من التعجب:

  • الجنة!

فنظر إليه الثلاثيني بنظرة ريبة, فغمغم حمدي في نفسه:

  • وهل أمثالكم يعرفون الجنة!؟

فواصل السيد قائلًا بنبرة حازمة:

   –  ما علاقتك بعبدالحميد كشك؟

–      من عبدالحميد كشك؟

–      ما علاقتك بالشيخ عبدالحميد كشك ألا تعرفه؟!

      هل أنت من أنصار فكره؟

      هل والدك أحد تلاميذه؟

      أجبني بكل صراحة عن رفاقك من أنصار فكر كشك؟

فارتجف حمدي من هول الأسئلة المتعاقبة كالسهام الجارحة وأجاب بصوت مرتعش:

     –  لست من أنصار الشيخ عبدالحميد الله يرحمه, ولا أعرف له أنصار.

     –  فما علاقتك به إذن؟

     –  كل علاقتي أنني قد أعجب به أحيانًا, فكل معرفتي به تنحصر فيما اسمعه له من خطب قد أصادفها في الموصلات, أو على هاتف أحد الأصدقاء.

     –  لقد حذرتك من أنني لا أحب الكذب, فقل الحقيقة بدلا من أن يستخرجها هؤلاء من جوفك. 

 فتولت إحدى الأيدي المهمة سريعًا, فنزلت على ظهره قوية شديدة, كتذكرة فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

فقال حمدي وقد تعثر صوته:

    –  أقسم بالله على ما أقول شهيد.

    –  إذن فلنستمع سويًا لتسجيلاتكم الصوتية.

ثم أدار جهاز صغير بجانبه فترامى إلى الأذان صوت حمدي وهو يقول:

  • إنه حقا قوي شديد.

 فيرد حنفي:   

  • لقد استطاع أن يثبت جدارته في زمن الهش.

 فيتابع حمدي بضحك صاخب:

  • إنه استطاع أن يكون كفارس حقيقي يتفوق على جميع أعداه بل يسحقهم.

 فيواصل حنفي ضحكًا:

  • كم أحب كشك ومغامراتي مع كشك.

فيقول حمدي ساخرًا:

  • أزادنا الله من الكشك الكثير والكثير.

 ما انتهى التسجيل القصير حتى انفجرت من حمدي ضحكة عالية استنكرها جميع الحضور, فتعصب السيد واستشاط غضبه, فدق المكتب بكفه القوية, فكتم حمدي ضحكاته وابتلع أنفاسه, فقال السيد بغضب:

  • ما الذي يضحك؟ أتستمع لمسرحية من صنع أمك؟

   فشعر حمدي بالإهانة الشديدة لمجرد تطاوله على أمه, ولكن ما باليد حيلة, فقال وقد كتم غيظه, وتملكته بعض الشجاعة:

  • أين حنفي لقد كان معي قبل أن أفقد الوعي, أين هو؟

فقال السيد وقد ظهر عليه الضيق الشديد:

  • حدثني عن جماعتكم وفكركم, ولماذا سخرت من هذا التسجيل, وأعدك أن أخرجك أنت وصديقك من هنا.

فقال حمدي بإصرار وتعنت صعيدي:

  • لن أبوح بكلمة حتى أرى صديقي ورفيقي.

فصاح السيد بأحد العملاقة المنتشرين حوله وقد نفد صبره:

  • اذهب به خمس دقائق فقط حتى يرى حنفي وأعيده لهنا في عجالة.

وضع الرجل العصامة على عينيه وأسحبه خلفه, وقد طال السير, فقال حمدي ساخرًا في نفسه:

  • أين وضعوك يا صديق؟, من الواضح أنه كانت لك معاملة خاصة, فدائما رزقك ينتظرك أينما وحينما ذهبت.

  بعد برهة من السير سمع حمدي صوت باب يفتح ثم دفع بكل قوة للداخل وأغلق الباب, رفع عصامته بيده, فنظر فوجد في تلك الغرفة جسد قد تكوم في الزاوية البعيدة, فأسرع الخطى في اتجاهه, فوجد حرارة تشع من  صديقه كنار موقدة, وجسده ينتفض, بينما عينيه تشخص في السقف, فصرخ مدويًا, ثم مال على رفيقه يحتضنه بين ذراعيه, وقد ذرفت دموعه, وأحس بأن قلبه يتمزق, ويتساقط كأورق الخريف, فقال لصديقه محاولًا المرح والضحك كعادتهما:

  • أأريت يا صديق هؤلاء المرتعشة أياديهم, المفككة أنظمتهم, لقد ظنوا أن بحوارنا اليومي نتحدث عن الشيخ كشك, ولا يعلموا أننا لدينا كشك خاص نمتاز به عن باقي البلدان, اخترعته جددتنا منذ القدم ليؤكل ومازلنا ليومنا هذا نمجده ونأكله ونتفنن في صنعه, كما أنه يفدنا حينما نتلاعب به ونتقاذف به.

 ما كاد ينهي حمدي كلماته حتى شعر ببرودة تسري في جسد صديقه, وتتسرب إليه فتكاد أن تخترق قلبه وتمزق أوصاله, فنظر إليه بعين شاخصة حائرة, فأيقن أنه القدر المحتوم قد حل ولا فرار, فصرخ صرخة مدوية وصاح:  

– آه ثم آه وألف آه يا صديقي.

_____________

نشرت قصة الكشك نوعان ضمن المجموعة القصصية عربي وأعجمي ورقيًا في مصر في 2020، وهنا القصة كما نشرت دون أي تعديل أو تصحيح.